مارينا نائب مدير
عدد المساهمات : 2066 نقاط : 5492 تاريخ التسجيل : 29/03/2011 العمر : 38
| موضوع: ملاك كنيسة أفسس .. شخصيات الكتاب المقدس الخميس مايو 05, 2011 5:47 pm | |
|
ملاك كنيسة أفسس
" لكن عندى عليك أنك تركت محبتك الأولى "
( رؤ 2 : 4 )
مقدمة
عندما كتب دانتى كتابه العظيم « الكوميديا الإلهية » ، قيل إنه كان يندمج بانفعالاته العميقة فى الكتابة مع الصور التى يتخيلها ، إلى درجة أن هذه الصورة كانت ترتسم على وجهه وهو لا يدرى !! .. فعندما كتب عن الجحيم ، وتخيل نفسه يسلك فى دركاته التسع التى تخيلها ، وهو ينتقل من هوة إلى هوة ، ومن عذاب إلى عذاب ، قيل إن وجهه طبع بطابع الجحيم نفسه ، وبدا كما لو أنه وجه شيطان ، ... لكنه عندما تحول للكتابة فى السماء ، أخذ وجهه يلمع كما لو كان ملاك نور ، وبدا مرتفعاً عن كل التعاسات والآلام والشر والحقد الذى تبدى فى كتاباته عن الجحيم ،. وما قيل عن دانتى يمكن أن يقال عن كل ملاك من ملائكة الكنائس السبع ،. والملاك هنا هو راعى الكنيسة أو شيخها أو ناظرها أو أسقفها ، أو القائد المنظور فيها ، .. ولا شبهة فى أن كل قائد من ملائكة الكنائس السبع كان يعكس صورة الكنيسة التى عاش بين جنباتها ، إذ تأثر منها ، وأثر فيها ، واختلط نسيج حياته بنسيج حياتها ، حتى يصح أن نراه مرآة تعكس الكنيسة ، كما تعكس الكنيسة صورته الحقيقية ، ومن ثم أصبح الحديث عنه وعنها شيئاً واحداً ، فالكنيسة الحية لا شك فى أن يكون راعيها حياً ، والكنيسة الميتة لابد أن يكون راعيها ميتاً مثلها ، ولأجل هذا سنتعرض لشخصيات الملائكة المذكورين فى الأصحاحين الثانى والثالث من سفر الرؤيا ، وقد اتسم كل منهم بسمته الخاصة التى ألقت أضوائها أو ظلالها عن الكنيسة التى كان يقوم برعايتها ، وسنتأمل الآن ملاك كنيسة أفسس ، أو الأسماء التى جاءت فى سفر الرؤيا عن الملائكة السبعة فيما يلى :
ملاك كنيسة أفسس ومديح المسيح له
كانت مدينة أفسس واحدة من ثلاث مدن تعد أجمل وأعظم المدن فى حوض البحر الأبيض المتوسط فى العصر القديم وهى الإسكندرية وأنطاكية وأفسس . وفى أيام بولس كانت المدينة تعد أكبر مدينة فى أسيا الصغرى والعاصمة الرومانية للولاية المعروفة حينئذ بولاية آسيا ، وقد بنيت عند مصب نهر كيستر ، فى بحر إيجه ، وكان لها ميناء متسع كبير ، كانت ترسو فيه السفن الكبيرة ، ولذا فقد كانت أفسس مركزاً تنجارياً عظيماً ، كما كانت ملتقى الغادين والرائحين بين الشرق والغرب فى أرجاء الإمبراطورية الرومانية . على أن المدينة ، كما هو معلوم ، أخذت شهرتها - قبل المسيحية - من هيكل أرطاميس الذى كان يعد من عجائب الدنيا السبع القديمة ، وقد سبق لنا أن تكلمنا عنه ، لقد كانوا يقولون فى معرض الحديث عن روعته وفخامته وجماله إن الشمس لم تر ما هو أفخم وأعظم منه ، وقد بنى بأكمله من الرخام الأبيض ، وكانت أعمدته مئة وسبعة وعشرين عموداً من اليشب ، أهدى كل عمود منها ملك من الملوك ، وقد سقف بالأرز ، وزين بروائع الصور والتحف والتماثيل والستائر مما خلفه أمهر الرسامين والصناع وأرباب الفنون وقد كانت أرطاميس أو دينا - وهى تختلف عن ديانا عند اليونانيين التى كانت تعد آلهة الصيد ، أما دينا الأسيوية فقد كانت عند عابديها أم الحياة - وقد كان تمثالها هذا هبط من عند زفس كبير الآلهة ، وعلى مقربة من هذا الهيكل ، كان يوجد مسرح هائل يتسع لخمسين ألفاً من المتفرجين ، . وقد استقر بولس فى أفسس ثلاث سنوات ، وأسس فيها كنيسة كبيرة ، بل كانت مركز التأثير المسيحى فى أسيا الصغرى ، ومن المعتقد أن الكنائس السبع قامت حوالى ذلك التاريخ أى عام 54 - 57 م . ... ومن المرجح أن بولس كتب رسالته إلى أفسس عام 63 م أو حوالى ذلك وعندما ذهب بولس إلى مكدونية ترك تيموثاوس فى المدينة : « كما طلبت إليك أن تمكث فى أفسس إذ كنت أنا ذاهباً إلى مكدونية لكى توصى قوماً أن لا يعلموا تعليماً آخر ، ولا يصغوا إلى خرافات وأنساب لاحد لها تسبب مباحثات دون بنيان اللّه الذى فى الإيمان » ( 1 تى 1 : 3 ، 4 ) ... ثم ذهب بعد ذلك إلى روما عندما دعاه بولس للمجئ وهو فى سجنه الأخير ( 2 تى 4 : 9 و 21 ) ..!! .. على أنه عاد إلى المدينة بعد موت الرسول ، واستمر يخدم فيها حتى استشهد فى أحد أعياد أرطاميس كما يقول تقليد قديم ، وقد قيل إن غايس خلفه فى رعاية الكنيسة ، وقد جاء فى رسالة لأغناطيوس أن أنسيمس ، ولعله أنسيمس آخر خلاف المعروف لنا ، كان أسقفا للكنيسة ، ويقول أغناطيوس إن الكنيسة انتفعت إلى حد كبير برسالة المسيح إليها على لسان يوحنا الرائى !! ..
ومع أننا لا نعلم بالضبط من هو الراعى الذى كان يرعى الكنيسة عندما جاءته هذه الرؤيا السماوية ، لكنى أعتقد أنه كان سعيداً جداً بمديح المسيح له ، .. ولعل أول ما أسعده فى الحديث : «هذا يقوله الممسك السبعة الكواكب فى يمينه الماشى فى وسط السبع المناير الذهبية» ... إذاً فهو فى أفسس فى يد المسيح القوية ، والكنيسة الناشئة فى أفسس ليست متروكة على الإطلاق ، وهى تقف فى مواجهة ارطاميس الوثنية الرهيبة . ولعلنا نستطيع أن نفهم مدى غبطته،إذا تحولنا إلى منظر مثير حدث فى حياة مارتن لوثر فى مدينة أوجسبرج ، عندما أرسلت روما الكاردينال العظيم كاجيتان ليخرس لسان الراهب الصغير الذى جرؤ على أن يقف ضد البابوية ، ... وقد قيل إن الكونت ألرخ فون هاتون والذى كان فى البداية مناصراً للكنيسة ، لكنه تحول عنها ليؤيد لوثر ، حضر هذه المقابلة وقال عنها : عندما جاء لوثر إلى أوجسبرج ليواجه الكاردينال كاجيتان الذى أرسلته روما ليسحق الدودة الحقيرة ، كما قال هو لى ، قررت أن أحضر هذه المواجهة المثيرة ، لأرى كيف يقف ابن عامل المنجم أمام العالم الإيطالى والقائد الكبير فى الكنيسة !! .. ومع هذا كله كنت أؤمن أن الكنيسة فى حاجة إلى تطهير ، وكنت أعلم أن الكهنة غارقون فى الفساد والدنس ، وأن الأديرة مليئة برهبان يعيشون فى الأوحال والشر .. كنت أعلم هذا كله ، ومع ذلك كنت أحتقر لوثر ، الذى وقف وحده بشجاعة ليتكلم لأجل اللّه والحق ، ولذلك قررت أن أكون حاضراً عندما يواجه لوثر كاجيتان .. وفى صباح ذلك اليوم قلت للكاردينال: «ماذا ستعمل معه!!؟.. » فضحك الكاردينال وأجاب : سأجعله يركع على ركبتيه فى خمس دقائق .. وفى خمس دقائق أخرى سأجعله يجرى من أمامى كالكلب المضروب يلتمس الصفح والغفران ، وسأرى هؤلاء الألمان أى نوع من الرجال لوثر هذا ، وماذا يحدث لأى إنسان يجرؤ على الوقوف فى وجه الكنيسة ، وسأريهم أن الكنيسة فى حد ذاتها قانون تعمل ما تشاء وما تريد ، سأريهم أن البابا إذا أجاز أن يقتل الإنسان أمه ، فإن هذا يصبح واجباً مطاعاً ، .. وسأريهم أن الكاهن إذا كسر القانون الإلهى أو الأرضى فمن واجبهم أن يسكتوا !! .. واستطرد فون هاتون وهو يقول: كان منظراً مثيراً من أعظم المناظر وأكثرها إثارة ، فالراهب الصغير وقف أمام كاجيتان .. ولم يخضع له أو يسقط أمامه !! .. صرخ كاجيتان قائلا : اخضع اخضع !! .. فقال الراهب : إنى أخضع لكلمة اللّه .. فقال كاجيتان : من أنت .. ما أنت إلا راهباً صغيراً جاهلا أحمق !! .. فصرخ لوثر : برهن لى جهالتى .. فقال كاجيتان : لقد قلت هذا ، وهذا يكفى ... واعلم أيها الراهب أن أصبع البابا أقوى من ألمانيا كلها . أنه يستطيع أن يسحق الدودة التى هى أنت ... هل تظن أن النبلاء الألمان يستطيعون أن يحموك ، إنى أقول لك كلا .. وأين تكون أنت حين يتقد غضب البابا ضدك !! ؟ . فأجاب لوثر « أكون حيث أنا الآن فى قبضة يمين القادر على كل شئ !! .. » .. ومع الفارق البعيد بين أرطاميس والبابوية إلا أنه واضح أن كلتيهما كانتا القوة الهائلة المفزعة ، وأن ملاك أفسس كان سعيداً كل السعادة أن يتأكد من أنه فى قبضة يمين السيد ، كما اعتقد لوثر سواء بسواء !! ... واعتقد أننا جميعاً ينبغى أن نبتهج ونسر بذلك الذى يمسك بنا فى قبضة يمينه فى مواجهة كافة المتاعب والآثام والشرور والأخطار المحدقة بنا، وأنه لا يرقـــب الكنائس من بعيد بل يتمشى فى وسطها . ويهتم بها أكبر الاهتمام وأوفاه وأعظمه!!
وقد امتدح السيد ملاك أفسس بالقول : « أنا عارف أعمالك » ... ومن هو هذا الذى يعرف هذه الأعمال ؟ إنه الذى : « عيناه كلهيب نار » .. ومعرفته لا تقتصر على الظاهر فقط ، بل تتغور إلى الأعماق، ... عندما تعلم الإنسان التصوير كان يصور الظاهرة فقط ، ... ولكن وجدت بعد ذلك المدارس التى لم تقف عند حد التصوير الظاهرى ، بل امتدت أكثر إلى الأعمال ، فوجد الفن الذى يجتهد فى تصوير الداخل ، كما أن البيت مثلا من زجاج وتستطيع أن ترى جميع أجزائه الداخلية بكل ما فيها من أوضاع وتفاصيل ، ... وجاءت صور الأشعة التى تكشف ما وراء الظاهر من الثياب أو الجسد العارى ، ... وقدرة المسيح الكاشفة لا تقف عند حدود الأعمال الملموسة التى قد تقع تحت عيون الجميع ، ... لكنها تمتد إلى السرائر والعواطف والمشاعر والنوايا المغلغلة فى أعماق النفوس والقلوب !!..
وواضح تماماً أن معرفة المسيح لا تقف عند حد الأعمال فحسب ، بل التعب أيضاً ، والمسيح هنا يراقب بإعجاب وحنان هذا التعب ، الذى لم يكن باطلا ، أو بدون تقدير لأنه يقول للملاك : «تعبت من أجل إسمى» ( رؤ 2 : 3 ) ... وهو فى الحقيقة التعب الوحيد الذى لا يذهب عبثاً أو هباء فى الأرض ، وقد قيل فى أساطير الأقدمين إن الآلهة لعنت رجلا فحولته إلى حصان لا يعرف الراحة أو الهدوء وهو يدور فى دائرة محددة دون توقف ، والدموع تهطل من عينيه ، وقد يقول الناس إن هذه خرافة ولكننا لو تأملنا ملايين البشر الذين يدورون العمر كله فى حلقة مفرغة من التعب والعناء والشقاء دون راحة أو توقف ، حتى يوقفهم الموت عن الحركة ، فينتقلون إلى العناء الأبدى فى الجحيم ، .. وعلى العكس فإن التعب الوحيد الذى ينتهى إلى الراحة والجزاء والطيب ، هو التعب من أجل السيد: «يستريحون من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم» ( رؤ 14: 13 ) .
وهناك الفضيلة الأخرى التى لها التقدير العظيم عند المسيح وهى فضيلة الصبر : « وصبرك»... وهذا الصبر قد تولد أساساً عن طول التعب أو المعاناة ، والسيد ، من البداية ، يطالب بالصبر بصبركم اقتنوا أنفسكم » ( لو 21 : 19 ) . ويقول الرسول بولس : «عالمين أن الضيق ينشئ صبراً والصبر تزكية والتزكية رجاء » ( رؤ 5 : 3 ) .. والرسول يعقوب : «عالمين أن امتحان إيمانكم ينشئ صبراً وأما الصبر فليكن له عمل تام» ( يع 1 : 3 ، 4 ) والرسول بطرس : « وأنتم باذلون كل اجتهاد قدموا فى إيمانكم فضيلة ، وفى الفضيلة معرفة ، وفى المعرفة تعففاً ، وفى التعفف صبراً وفى الصبر تقوى» ( 2 بط 1 : 5 ، 6 ) ... إذاً ليس هو مجرد التعب بل التعب الطويل الذى يمتحن الإيمان ، والذى يتزكى بالضيق ، والذى يكشف عن التقوى المتمكنة من الحياة ، وهذه كلها جديرة بإعجاب السيد وتقديره !! ..
على أن هذه كلها لا تعنى برود المشاعر أو جمود الأحاسيس ، بل إن عكسها يظهر فى عدم احتمال الأشرار وبغض أعمالهم واحتقار تصرفهم ، وتتفق مشاعر الملاك هنا مع مشاعر سيده : « ولكن عندك هذا أنك تبغض أعمال النقولاويين التى أبغضها أنا أيضاً» ( رؤ 2 : 6 ) . ومع أننا لا نعرف تماماً من هم هؤلاء النقولاويون ، إلا أنه يبدو أنهم جماعة حاولت أن تفسد الإيمان المسيحى ، بالزعم بأنه مادام المسيح قد حررنا من سلطان الناموس ، وأعطانا الحرية ، فإنه لا يجوز لأحد أن يقيدها بقيد ، .. والآداب نفسها لا يجوز أن تكون قيداً على الحرية ، ... ومادام المسيح قد أعطانا هذه الحرية ، فلا عبرة بأى تصرف مادى جسدى ، مادام الإنسان فى روحه يؤمن بالحرية المسيحية التى أعطاه إياه المسيح ، .. وقد حول النقولاويون الحرية فرصة للجسد على الوجه المفسد والمعيب ، .. هذه هى الفلسفة التى أبغضها وحاربها ملاك كنيسة أفسس ، ونالت حربه ضدها استحسان السيد وتأييده وموافقته الكلية !!
ولعله من المناسب هنا أن نفرق بين الخاطئ والخطية ، فنحن نحب الخاطئ ونكره الخطية ، ونحن نصبر على الخاطئ ولكن لا يجوز أن نصبر على الخطية ، إن اللّه نفسه يفعل ذلك ، وقد صورها أحدهم بهذه الصورة إذ قال : ازرع فى حديقة حياتى ، حيث الأشجار الغنية بالثمر ، الأعشاب والأشواك فيرسل اللّه ريحه العاتية لتقتلع هذه الأعشاب والأشواك ، والريح ليست كراهية من اللّه لى ، بل كراهية للأعشاب والأشواك فى حياتى ، .. وسيبقى اللّه على الدوام يحب حياتى المثمرة ، ويريد أن يحررها من الحسك النابت فى أرضها !! .. وهنا يلزم أن نعرف الفرق بين الصبر وعدم الاحتمال ، ومجال هذا أو ذاك ، وكيف يمكن التحلى بالاثنين دون أن نعيش حياة التناقض أو الاختلاف !! ..
ملاك كنيسة أفسس وعيبه القاتل
لعله من أصعب الأمور وأقساها أن يقال لرجل له هذه الصفات المتعددة المحبوبة إن به عيباً قاتلاً مدمراً ، إذا لم يلتفت إليه ، سيقضى عليه ، وعلى مزاياه جميعاً ، ولعله من الصعب على البشر ، أو على الملاك نفسه أن يفهم هذا العيب ويقدر وزنه على هذه الصورة المروعة المهولة، وعلى وجه الخصوص لأن هذه المزايا قد تكون غطاء مخادعاً كثيفاً لا يسهل معه تبين القبيح أو العثور عليه ، ولكنها هى الحقيقة الرهيبة التى يكشف عنها ميزان المسيح ، والميزان هنا أشبه بصور الأشعة أو التحليل المتعددة الدقيقة التى يطلبها الطبيب حتى يتمكن من تحديد العلة على وجه دقيق ، ولم يعد هناك طبيب يعتمد على خياله أو تصوره فى الحكم على الأشياء قبل الرجوع إلى هذه الصور أو التحاليل ، ومن ثم يصبح من أوجب الواجبات ألا نأتمن أنفسنا أو الناس فى الحكم على حقيقة حالنا ، بل تكون صرختنا الدائمة إلى أشعة اللّه وتحليله الدقيق ، ينبغى أن تقول: «اختبرنى يا اللّه واعرف قلبى امتحنى واعرف أفكارى وانظر إن كان فىَّ طريق باطل واهدنى طريقاً أبدياً » ( مز 139 : 23 ، 24 ) .. لقد قامت فلسفة اليونانى القديم حول القول: «اعرف نفسك » ... ولقد قيل ان سقراط قال لأحدهم : أنا أعلم منك ، فأجابه الآخر : وكيف تقول هذا !!؟ .. أجاب : لأنى جاهل وأدركت جهلى ، أما أنت فجاهل ولا تعرف أنك جاهل!!.. وقيل إن أحد الضباط مر ذات يوم بالفيلسوف شوبنهور فى حدائق برلين الملكية ، ولم يكن يعرفه فسأله : من أنت !! ؟ .. فأجاب شوبنهور : لا أعرف وأكون سعيداً لو أخبرتنى من أنا!!؟ .. وقد تصور الضابط لأول وهلة أنه أمام رجل مجنون حتى تبين أنه يتكلم إلى فيلسوف يتفحص أغوار نفسه وأعماقها!! .. ومن الملاحظ أن ميزان السيد دقيق وأمين ، وهو لا يعرف البتة المثل القائل: «وعين الرضى عن كل عيب كليلة » ، بمعنى تجاهل العيب أو غض الطرف عنه ، بل إنه يعمل بالأحرى على كشفه وتعريته حتى يسهل القضاء عليه أو التخلص منه ، ... والعيب القاتل عند ملاك كنيسة أفسس هو التراجع عن المحبة : « لكن عندى عليك أنك تركت محبتك الأولى»... والمحبة بادئ ذى بدء هى أهم الصفات التى يلزم أن يتميز بها المؤمن فى كل تتصرفاته ، وهى صفة الصفات إن صح أن ندعوها كذلك ، إذا كنا أبناء للّه الذى هو محبة : « اللّه محبة » .. واللّه يهتم بها قبل وبعد كل شئ لطبيعة التماثل الذى ينبغى أن يكون بيننا وبينه ، وعودة الشبه والصورة اللذين ضيعتهما الخطية منا على الأرض ، .. ولأن المحبة فى حد ذاتها هى أساس كل صفة فى الحياة . وقديماً قالت العروس فى النشيد : « اجعلنى كخاتم على قلبك كخاتم على ساعدك . لأن المحبة قوية كالموت . الغيرة قاسية كالهاوية . لهيبها لهيب نار لظى الرب . مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة والسيول لا تغمرها . إن أعطى الإنسان كل ثروته وبيته بدل المحبة تحتقر احتقاراً ( نش 8 : 6 ، 7 ) .. وأية مهانة حقاً أن يعطى رجل أو امرأة ، فى الحياة الزوجية ، للآخر كل شئ دون أن يعطيه المحبة !! .. وأية تعاسة يعانيها البشر متى كان تعاملهم بعضهم مع البعض من غير المحبة !! .. فإذا قدمنا للّه عملاً مهما تكن ضخامته أو عظمته ، ولكنه خال من عنصر المحبة ، أو بمحبة متراجعة ، فإنه يحتقر احتقاراً ، ... ولم يقدم اللّه أى عمل لنا من غير المحبة ، بل إن عمله الأعظم على الصليب كان : « لأنه هكذا أحب اللّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية » ( يو 3 : 16 ) . ولذلك فاللّه ليس شديد الغيرة على المحبة فحسب ، بل على تزايدها باستمرار أيضاً ، وهو يحض المؤمنين على سباق المحبة بين بعضهم والبعض ، وقد قال لبطرس : « ياسمعان بن يونا أتحبنى أكثر من هؤلاء» ( يو21 : 15 ) .. والمحبة لازمة وضرورية لكل عمل لأنها زيت المشعل أو المصباح الكامن فى داخلنا ، فإذا تسرب الزيت أو قل ، كان فى ذلك النذير الواضح بالخطر المقترب لانطفاء الجذوة المشتعلة ، ولعل هذا هو السبب الذى دعا بولس إلى أن ينبه تيموثاوس فى أفسس إلى هذا الخطر من البداءة وهو يقول له : « فلهذا السبب أذكرك أن تضرم أيضاً موهبة اللّه التى فيك بوضع يدىَّ » ( 2 تى 1:6) .. ترى هل لاحظ الرسول بدء الذبذبة الروحية لملاك كنيسة أفسس فى ذلك التاريخ المبكر !! .. لا نعلم ولكن من المحقق أن الخطر الداهم لأى خادم أو خدمة على الإطلاق هو تراجع المحبة ، ... ومع أن هذا التراجع ليس من السهل الكشف عنه بالنظرة الظاهرية ، لكنه معلوم دائماً أمام اللّه ، واللّه لا يهمل أن ينبهنا بكافة الصور إلى هذه الحقيقة بين الحين والآخر ، ومن الواجب أن نضع نفوسنا على الدوام تحت عين اللّه الفاحصة وأمام ميزانه الدقيق ونحن نقول : « أحبك يارب ياقوتى».
ولعله من أهم الواجبات أن نسأل لماذا تتراجع المحبة ، ولماذا تخبو شعلتها ويذوى ليبها ، .. إن هناك أسباباً متعددة بلا حصر تعمل على إضعاف المحبة أو قتلها فى حياة المؤمنين ، وقد تأتى هذه الأسباب من الانكباب على العمل ، والانشغال الكلى به ، دون قضاء الوقت الكافى فى الشركة مع اللّه ، والتعبد له ، وقد كانت هذه تجربة مرثا القديمة وهى لا تدرى ، الأمر الذى ميز بينها وبين أختها مريم التى اختارت النصيب الصالح عند قدمى السيد ، ... وقد يرجع الأمر إلى قسوة النضال واشتداده وصعوبة المعركة وضراوتها ، مما لا يتيح للمناضل فرصة السكينة والهدوء والتأمل ، ويمكنه من مراجعة المكسب أو الخسارة فى حياته الروحية !! .. وقد يتأتى عن تسرب الروح العالمية إلى حياة المؤمن عند اختلاطه بالأشرار ، واغرائه بشهوات الحياة الحاضرة أو آمالها أو انتظاراتها ، ... أو قد يكون بسبب قراءات كتب أو كتابات تشجع على الشكوك أو الاستباحة أو الاستهتار أو ما إلى ذلك مما يؤذى سمو الحياة الروحية فى الإنسان .
ومهما يكن الباعث على ضعف المحبة أو تراجعها ، فإن السيد لا يقبل البتة أن تقوم العلاقة بينه وبين أية كنيسة أو مؤمن على غير المحبة ، وقد يرضى الناس عن العمل فى مظاهره أو شكله أو ضخامته أو حركته مادام يعطى الشكل أو الصورة الخارجية دون بحث عن الدافع الداخلى الذى يكمن وراءه ، ولكن اللّه لا يرضى البتة بذلك ، ويكفى أن الرسول يقول فى دفاعه عن أهمية المحبة ، وكأنما هى الروح فى الجسد ، فإذا ضاعت فإنما نحن أمام جثمان ميت ليس إلا: «إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لى محبة فقد صرت نحاساً يطن أو صنجا يرن وإن كانت لى نبوة وأعلم جميع الأسرار وكل علم وإن كان لى كل الإيمان حتى أنقل الجبال ولكن ليس لى محبة فلست شيئاً وإن أطعمت كل إموالى وإن سلمت جسدى حتى أحترق ولكن ليس لى محبة فلا أنتفع شيئاً ( 1 كو 13 : 1 - 3 ) .. وفى الحقيقة أن الكنيسة مهما تبدو عليه من منظر فخم عظيم أو حركة دءوب أو عمل متسع دون محبة ، فهى والموت سواء فى نظر اللّه، .. فإذا حدث هذا فهى فى خطر داهم وبلاء عظيم قد يؤدى بها إلى الضياع والتلاشى ، وهذا هو التفسير الوحيد لقول اللّه لملاك أفسس : « وإلا فإنى آتيك عن قريب وأزحزح منارتك من مكانها إن لم تتب » ، وهذا هو التفسير لكثير من الكنائس التى كانت شامخة فى يوم من الأيام ، ثم تحولت مع الزمن أطلالا دارسة ، لأنها فقدت معنى وجودها أمام اللّه بضياع المحبة ، فسمح اللّه نفسه بتحطيمها ، لأنها حطمت بالفعل العلاقة الوحيد الأساسية بينه وبين كل كنيسة ،. فإذا ناح الناس على الكنائس التى كانت يوماً من الأيام فخر تاريخها ، وملء سمع الدنيا بأكملها ، فستكون دهشتهم بالغة يوم يعلمون بأن اللّه هو الذى فعل ذلك وليس غيره ، لأنه جرح بعمق فى قلبه ، كما يجرح الزوج بخيانة زوجته .
ومن ثم فان اللّه وقد رأى هذا التراجع فى خادمه وفى الكنيسة ، كان لابد رغم المدح ، الذى ذكره له فى الابتداء أن ينبهه إلى الخطية التى يلزم أن يدرك بشاعتها ، حتى ولو ظنها شيئاً يسيراً ، وهو لا يمكن أن ينتصر عليها إلا بالتوبة إلى اللّه والاعتراف بشفاعتها : « إن لم تتب».. ترى هل يستطيع المؤمنون إدراك بشاعة الحياة بلا محبة فى نظر اللّه !! ..
ملاك كنيسة أفسس وجزاء الغالب المنتصر
ولعله من اللازم الإشارة إلى أن السيد سجل جزاءاً محدداً لكل منتصر من ملائكة الكنائس السبعة ، وهو يبدأ هنا بطعام الحياة الأبدية فى فردوس اللّه ، أو فى لغة أخرى أنه يرد له ما فقده فى جنة عدن ، عندما طرد من الجنة ووضع لهيب سيف متقلب لحراسة الطريق إلى شجرة الحياة ، وكان لابد أن يوضع الملاك بسيفه النارى حتى لا يأكل الإنسان من الشجرة ، وهو خاطئ ، ويحيا ، فتتحول الحياة له عذاباً لا يوصف ، وهو ما سيصل إليه الخطاة فى الجحيم الأبدى ، كلا فالحياة فى الخطية على الدوام ، كحياة المعذب المتألم فى فراش مرضه ، وهو يطلب الموت ، لعله يستريح ، أو الممزق النفس والمشاعر والقلق الذى لا يهدأ قلقه أبداً فيعمد إلى الانتحار لأنه لا يستطيع الحياة على الصورة التى يحياها ، والموت فى تصوره أهون وأيسر ،... والفردوس فى الصورة البشرية ، وهو الحدائق الغناء التى أبدعها الفرس ، وأطلقوا عليها هذا الاسم ، وتحولت رمزاً للجنة الموعود بها للمؤمنين ، والصورة التى يمكن أن يتخيلوها عن الحياة الأبدية مع اللّه ، ... وإذا كانت الخطية قد أفقدت الإنسان الفردوس القديم ، فإن المسيح « المخلص » هو وحده الذى يعيد إليه هذا الفردوس المجيد مرة أخرى ، ومن ثم رأيناه يحققه للص التائب بالقول : « اليوم تكون معى فى الفردوس » ( لو 22 : 43).. ولا يختم الرائى رؤياه ، حتى نرى الموكب البشرى من المفديين ، وقد تحقق له هذا الأمل الموعود ، .. والجزاء لا يمكن أن يعطى إلا للجندى المحارب ، فهو لا يبذل لعاطل أو نائم أو متقاعس عن الخدمة أو منصرف عنها .. فإذا ما سألنا وما هى شجرة الحياة ، وما ثمرها الذى سيأكله المؤمنون ، فى وسط فردوس اللّه ، ... كان علينا أن ندرك أن هذا الثمر ليس مادياً بحال من الأحوال لأن « لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت اللّه ، ولا يرث الفساد عدم الفساد » ، ( 1 كو 15 : 50 ) .. إن شجرة الحياة هى المسيح نفسه ، والحياة الأبدية فى بهائها العظيم الذى لا ينطق به ولا يسوغ للسان البشرى أن يتحدث عنه ، ليست إلا الحياة التى يمنحها المسيح للمفديين إلى أبد الابدين ، وفى الحقيقة لا حياة إلا بالمسيح وفيه وبروحه وبالشركة الدائمة الأبدية معه والمسيح غذاء المؤمنين وطعامهم الأبدى ، وكما لا تقوم الحياة فى الأرض بدون طعام ، كذلك لا يعيش المؤمنون فى الأبدية بدون المسيح ، ومن ثم يلوح المسيح لملاك كنيسة أفسس بهذه الحياة فى حال الانتصار : «من يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التى فى وسط فردوس اللّه» .. (رؤ 2 : 7)!!..
| |
|