شات دم المسيح الحر
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


شــ،،ــاتـ ومـ،ــنـ،،ـتـ،ـدى دم الـ،،ـمــســ،،ـيــح الـ،ـحـ،ـر
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 مقدمة عن تفسير انجيل متي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
مارينا
نائب مدير
مارينا


عدد المساهمات : 2066
نقاط : 5492
تاريخ التسجيل : 29/03/2011
العمر : 38

مقدمة عن تفسير انجيل متي  Empty
مُساهمةموضوع: مقدمة عن تفسير انجيل متي    مقدمة عن تفسير انجيل متي  Icon_minitimeالثلاثاء مايو 10, 2011 8:53 pm

تفسير انجيل متي

المقدمة


الكاتب

القدّيس متّى الإنجيلي، هو أحد الاثنى عشر تلميذًا، كان عشّارًا اسمه لاوي واسم أبيه حلفى. رآه السيّد المسيح جالسًا عند مكان الجباية فقال له: اتبعني، فقام وتبعه (مت9: 9؛ مر2: 14؛ لو5: 29). ترك لاوي الجباية التي كان اليهود يتطلّعون إليها ببغضة، لأنها تمثل السلطة الرومانيّة المستبدة، وعلامة إذلال الشعب لحساب المستعمر الروماني المستغلّ. وقد سجّل لنا معلّمنا لوقا البشير الوليمة الكبرى التي صنعها لاوي للسيّد في بيته، ودعا إليها أصدقاءه السابقين من عشّارين وخطاة حتى يختبروا عذوبة التبعيّة للسيّد المسيح بأنفسهم (لو5: 29)، الأمر الذي أثار معلّمي اليهود، قائلين للتلاميذ: لماذا يأكل معلّمكم مع العشّارين والخطاة؟ أمّا هو فأجاب: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى، لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة" (مت9: 11-12).

أما كلمة "متّى" فتعني "عطيّة الله"، وبالعبرانيّة "نثنائيل"، وباليونانيّة "ثيودورس"، والتي عُرِّبت "تادرس". وكأن الله بدعوته لمتّى أشبع قلبه كعطيّة إلهيّة فانتزعت نفسه من محبّة المال وأخرجت قلبه خارج الجباية.

لغة الكتابة

يقول بابياس أسقف هيرابوليس عام 118م أن متّى حوى التعاليم باللسان العبري، وكل واحد فسّرها (ترجمها) كما استطاع. هذا أيضًا ما أكّده القدّيس إيريناؤس والعلاّمة أوريجينوس[40] والقدّيسان كيرلّس الأورشليمي[41] وأبيفانيوس[42]. ويروي لنا المؤرخ يوسابيوس أن القدّيس بنتينوس في زيارته إلى الهند وجد إنجيل متّى باللسان العبري لدى المؤمنين تركه لهم برثولماوس الرسول.

تاريخ كتابته

استقرّ رأي غالبيّة الدارسين أنه كُتب بعد إنجيل معلّمنا مرقس الرسول ببضع سنوات، وقبل خراب الهيكل اليهودي حيث يتحدّث عنه كنبوّة لا كواقعة قد تمت. لهذا يقدرون كتابته بالربع الثالث من القرن الأول.

مكان كتابته

يرى التقليد أن الإنجيل كُتب في فلسطين، الأمر الذي لم يشك فيه أحد من آباء الكنيسة الأولى، وإن كان بعض الباحثين رأوا أنه كُتب في إنطاكيّة أو فينيقيّة.

غرض الكتابة

1. كتب القدّيس متّى إنجيله لليهود الذين كانوا ولا يزالوا ينتظرون المسيّا الملك الذي يُقيم مملكة تسيطر على العالم. فالكاتب يهودي تتلمذ للسيّد المسيح يكتب لإخوته اليهود ليُعلن لهم أن المسيّا المنتظر قد جاء، مصحّحًا مفهومهم للملكوت، ناقلاً إيّاهم من الفكر المادي الزمني إلى الفكر الروحي السماوي. مصدر المقال: موقع الأنبا تكلاهيمانوت.

لقد كرّر كلمة "ابن داود" لتأكيد أن "المسيّا" هو الملك الخارج من سبط يهوذا ليملك، لكن ليس على نفس المستوى الذي ملكوا به في أرض الموعد، إنّما هو ملكوت سماوي (مت13: 43؛ 25: 34)؛ (7: 21؛ 8: 11؛ 16: 28). حقًا لقد كان اليهود ينتظرون بحمية شديدة مجيء المسيّا المخلّص ليملك. وقد جاء وملك لكن ليس بحسب فكرهم المادي!

2. حمل هذا الإنجيل أيضًا جانبًا دفاعيًا عن السيّد المسيح، فلم تقف رسالته عند تأكيد أن فيه تحقّقت نبوّات العهد القديم، وإنما دافع ضدّ المثيرات اليهوديّة، لهذا تحدّث بوضوح عن ميلاده من عذراء، ودافع الملاك عنها أمام خطيبها، وروى تفاصيل قصّة القيامة والرشوة التي دفعها اليهود للجند. لهذا دعا R. V. G. Tasker هذا الإنجيل بالدفاع المسيحي المبكّر[43].

3. يرى[44]G. D. Kilpatrick أن هذا الإنجيل في أصوله كتب بهدف ليتورجي، لتُقرأ فصوله أثناء العبادة المسيحيّة. وقد اعتمد في ذلك على ما اتسم به الإنجيل من وضوح واختصار ومطابقات وتوازن في اللغة. لكن البعض يرى أن مثل هذه السمات لا تعني أن هذا الإنجيل كتب بهذا الهدف، إنّما هي سمات الكاتب الأدبيّة، وأنه بسبب هذه السمات استخدم الإنجيل بطريقة واسعة في الأغراض الليتورجيّة[45].

سماته

استخدم هذا الإنجيل في الاقتباسات الواردة في كتابات الكنيسة الأولى أكثر من غيره[46]. ولعلّ نشره للموعظة على الجبل بطريقة تفصيليّة كدستور للحياة المسيحيّة كان له أثره على المؤمنين. أمّا سماته فهي:

1. إذ كتب متّى الإنجيلي هذا الإنجيل لليهود أوضح بطريقة عميقة العلاقة الأكيدة بين المسيحيّة والعهد القديم، موضّحًا كيف كانت الكنيسة مُبتلعة في التفكير في نبوّات العهد القديم التي تحقّقت روحيًا في المسيح يسوع ربنا. لقد أشار إلى حوالي 60 نبوّة من العهد القديم، كما تكرّرت كلمة الملكوت حوالي 55 مرّة، وذُكر السيّد المسيح كابن لداود ثمان مرّات، معلنًا أنه الموعود به. لقد حمل هذا الإنجيل جوًا يهوديًا أكثر من غيره، فيفترض في القارئ معرفة العبريّة (5: 19)، يستعمل التعبيرات المفضّلة عند اليهود كدعوة أورشليم بالمدينة المقدّسة (4: 5؛ 27: 52-53)، والهيكل بالمكان المقدّس (24: 15). يتحدّث عن أسس الأعمال الصالحة الثلاثة عند اليهود، أي الصدقة والصلاة والصوم (6: 1-8، 16-18)، وعن واجبات الكهنة في الهيكل (12: 5) وضريبة الهيكل (17: 24-27)، والعشور (23: 23) وغسل الأيدي علامة التطهير من الدم (27: 24) الخ.

أوضح أن السيّد لم يأتِ ليحتقر العهد القديم، بل ليدخل به إلى كمال غايته، من جهة الناموس والوصيّة وتحقيق ما جاء به من وعود خاصة بالخلاص. هذا التحقيق لم يتمّ فقط خلال تعاليم السيّد المسيح، وإنما أيضًا خلال شخصه كمخلّصٍ وفادٍ.

هذا ما دفع بعض الدارسين إلى التطلّع إلى هذا الإنجيل كدراسة حاخاميّة مسيحيّة تكشف عن إعلان السيّد المسيح المخفي في العهد القديم.

2. إذ يكتب متّى الإنجيلي لليهود لم يغفل عن مصارحتهم بأخطائهم، فيقول عن قائد المائة الروماني: "لم أجد ولا في إسرائيل إيمانا بمقدار هذا، وأقول لكم إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتّكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت فيُطرحون إلى الظلمة الخارجيّة" (8: 10، 12). وقوله: "ابن الإنسان يُسلّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت" (20: 18)، وأيضًا: "ملكوت الله ينزع منكم ويعطي لأمّة تعمل أثماره" (21: 43). منتقدًا تفسيرهم الحرفي لحفظ السبت (12: 1-13)، واهتمامهم بالمظهر الخارجي للعبادة (6: 2، 5، 16)، وانحرافهم وراء بعض التقاليد المناقضة للوصيّة (15: 3-9)، مؤكدًا لالتزامهم بالوصايا الشريعيّة حتى تلك التي ينطق بها الكتبة والفرّيسيّون مع نقده الشديد لريائهم (ص23) الخ.

3. إن كان هذا الإنجيل قد حمل جوًا يهوديًا أكثر من غيره من الأناجيل لكنّه لم يغفل القارئ الأممي، فيشرح له بعض الألفاظ المعروفة لدي اليهود كقوله: "عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا" (1: 23)، "موضع يقال له جلجثّة، وهو المُسمّى موضع الجمجمة" (27: 33). وشرح بعض النواحي الجغرافيّة، كقوله: "وأتى وسكن في كفرناحوم التي عند البحر في تخوم زبولون ونفتاليم" (4: 13). وشرح المعتقدات التي يعرفها اليهودي مثل: "جاء إليه صدّيقيّون، الذين يقولون ليس قيامة" (22: 23)، وأيضًا عادات يهوديّة مثل "كان الوالي معتادًا في العيد أن يطلق لهم أسيرًا واحدًا من أرادوه" (27: 15).

4. مع اهتمام الإنجيلي بالشئون اليهوديّة ليس فقط بالالتجاء إلى نبوّات العهد القديم، وإنما أيضًا بالالتزام بالوصايا الناموسيّة (5: Cool، وتعاليم الكتبة والفرّيسيّين الجالسين على كرسي موسى (23: 2)، بطريقة روحيّة عميقة وجديدة، أعلن السيّد أنه مُرسل لخراف إسرائيل الضالة (15: 24)، ويرجع نسبه إلى إبراهيم أب اليهود، وينقسم إلى ثلاثة أقسام تتكون من 14 جيلاً عن كل قسم بطريقة حاخاميّة، وأنه ابن داود المنتظر الذي يدخل المدينة المقدّسة كغالبٍ. هذه جميعها تُشير إلى تحقيقات أمنيات اليهود لكن الإنجيلي لم يقف عند هذا الحد؛ أيضًا عند الخصوصيات اليهوديّة بل انطلق بفكرهم إلى الرسالة الإنجيليّة الجامعيّة، معلنًا ظهور إسرائيل الجديد الذي لا يقف عند الحدود الضيقة. فقد ورد في نسب السيّد أمميّات غريبات الجنس، وفي طفولته هرب إلى مصر كملجأ له، معلنًا احتضان الأمم لملكوته (2: 13)، وفي لقاءاته مع بعض الأمميّين والأمميّات كان يمدحهم معلنًا قوّة إيمانهم، وفي نفس الوقت هاجم الكتبة والفرّيسيّين في ريائهم وضيق أفقهم (23)، وفي مثل الكرم تحدّث عن تسليم الكرم إلى كرّامين آخرين (21: 33)، وكأنه انطلق بهم من الفهم الضيّق المتعصّب إلى الفهم الروحي الجديد وإعلان الرسالة العظيمة الممتدة إلى جميع الأمم، حيث ختم السفر بكلمات السيّد الوداعيّة: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم" (28: 19).

5. الجانب اللاهوتي

إنجيل متّى هو "إنجيل الملكوت"، مركزه "ملكوت السماوات" الذي يُعلن بوضوح في الأحاديث التعليميّة للسيّد المسيح كما في أمثاله ومعجزاته. هذا الملكوت هو ملكوت المستقبل (25: 34؛ 7: 21؛ 8: 11؛ 16: 28)، لكنّه يبدأ من الآن في حياتنا كحقيقة حاضرة (12: 28؛ 4: 17؛ 5: 3؛ 11: 3). كأن ملكوت السماوات قد بدأ فعلاً بمجيء السيّد المسيح وسكناه في قلوبنا ليُعلن بكماله في مجيئه الأخير.

أما رب الملكوت فهو "المسيّا" المخلّص الذي كشف الإنجيل عن سلطانه الملوكي، موضّحًا أنه فيه تمّ المكتوب، وتحقّقت المواعيد الإلهيّة، وتمتّعت الشعوب بمشتهى الأمم! إنه موسى الجديد على مستوى فريد وفائق، يصوم أربعين يومًا، ويجرّب على الجبل ليغلب باسم شعبه وتخدمه الملائكة، يكمّل الشريعة الموسويّة لا بتسلّم وصايا على حجر منقوش بل يتكلّم بسلطان من عنده، يُشبع الجموع التي في القفر، ويتجلّى أمام تلاميذه مستدعيًا موسى وإيليّا ومتحدّثًا معهما! إنه ابن الله، لكنّه هو أيضًا ابن الإنسان، إذ حلّ في وسطنا ليدخل بنا إلى أمجاده. لهذا يدعوه "ابن الإنسان" في مواقف المجد الفائق.

6. الجانب الكنسي

لما كان إنجيل متّى البشير هو إنجيل الملكوت لهذا فهو أيضًا إنجيل الكنيسة بكونها سرّ ملكوت الله. إنه الوحيد بين الإنجيليّين يسجّل لنا تعاليم خاصة بالكنيسة بطريقة صريحة وواضحة على لسان السيّد المسيح، الذي نُسب إليه استخدام كلمة "إككليسيّا" مرّتين في عبارتين غاية في الأهمّية: فتحدّث عن أساس الكنيسة: صخرة الإيمان، قائلاً لبطرس الرسول حين أعلن إيمانه به، "على هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها" (مت16: 18). كما تحدّث عن سلطان الكنيسة. "وإن لم يسمع منهم فقُل للكنيسة، وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشّار. الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، وكل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء" (18: 17-18). مصدر المقال: موقع الأنبا تكلاهيمانوت.

هذا يكشف لنا عن اهتمام الإنجيلي متّى بالأمور الكنسيّة. والملاحظ أنه يؤكّد سرّ الكنيسة كحضرة الله وسط شعبه، وفي قلوبهم بطريقة وبأخرى عَبْر السفر كله، فيفتحه بحديث الملاك للقدّيس يوسف عن السيّد المسيح: "ويدعون اسمه عمّانوئيل الذي تفسيره الله معنا" (1: 23). وينقل إلينا حديث السيّد مع تلاميذه مقدّمًا لنا صورة مبسّطة للكنيسة المحليّة، بقوله: "لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم" (18: 20). كما أوضح السيّد الكنيسة الخفيّة في قلب الشاهد للحق، خاصة خلال عمله الرسولي بقوله: "من يقبلكم يقبلني" (10: 40)، "من قبِل ولدًا واحدًا مثل هذا باسمي فقد قبلني" (18: 5). كما يظهر معيّته مع شعبه المحتاج والمتألّم بقوله في اليوم الأخير: "بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي الأصاغر فبي فعلتم" (25: 40). ويرى العلاّمة ترتليان أن الإنجيلي متّى في عرضه لملاقاة السيّد مع تلاميذه داخل السفينة وسط الرياح الثائرة صورة حيّة للكنيسة التي تستمد سلامها من السيّد المسيح الساكن فيها والمتجلّي داخلها بالرغم ممّا يثيره الشيطان من اضطرابات ومضايقات. أخيرًا فإن الإنجيلي يختم السفر بكلمات السيّد لتلاميذه أن يتلمذوا جميع الأمم ويعمّدوهم ويعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصاهم به (28: 19، 20) مؤكدًا معيّته معهم كل الأيام إلى انقضاء الدهر (28: 20)، وكأن الكنيسة ممتدة من حيث المكان لتشمل الأمم ومن حيث الزمان إلى مجيئه الأخير لتعيش معه وجهًا لوجه!


7. الجانب الإسخاتولوجي (الأخروي)

إذ هو سفر الملكوت السماوي الذي ينطلق بمجيء المسيح الأول ليعد الكنيسة لملاقاته في مجيئه الأخير أكّد الإنجيلي الفكر الإسخاتولوجي (الأخروي) بصورة واضحة خاصة في الأصحاحين (24، 25). ففي الأول تحدّث عن علامات انقضاء الدهر، لا لمجرد المعرفة، وإنما بقصد الاستعداد بالسهر الدائم لمجيئه الأخير. وفي الأصحاح التالي قدّم لنا أمثلة رائعة عن الملكوت السماوي وملاقاتنا مع السيّد على السحاب.

8. الأرقام

إذ يكتب الإنجيلي متّى لليهود يهتمّ بالأرقام المحبّبة لهم خاصة أرقام 3، 5، 7. فمن جهة رقم 3 نجده يقسّم نسب السيّد المسيح إلى ثلاثة مراحل (1: 17)، والتجارب التي واجهها السيّد ثلاثة (4: 1-11)، وأركان العبادة ثلاثة (6: 1-18)، ويقدّم ثلاث تشبيهات للصلاة: السؤال والطلب والقرع (7: 7-Cool، وفي التجلّي أخذ السيّد معه ثلاث تلاميذ (17: 1)، وأيضًا في بستان جثّسيماني (26: 37)، وهناك صلي ثلاث مرّات (26: 39-44) وبطرس الرسول أنكر السيّد ثلاث مرّات (26: 75). وسنحاول الحديث عن معنى الأرقام أثناء عرضنا لتفسير الإنجيل.

9. من أهم ملامح هذا السفر أنه يتكون من خمس مقالات كبرى يلحقها أو يسبقها بعض القصص، حتى رأى البعض أن السفر يمثّل خمسة كتب جاءت مقابل أسفار موسى الخمسة بكون السيّد المسيح هو موسى الجديد. أمّا المقالات الخمسة فهي:

أ. الموعظة على الجبل ص 5 - 7.

ب. العمل الرسولي ص 10.

ج. أمثال الملكوت ص 13.

د. تعاليم متنوّعة ص 18.

هـ. أحاديث إسخاتولوجيّة ص 23 - 25.

محتويات السفر

إذ يتحدّث السفر عن المسيح الملك، جاءت محتوياته هكذا:

1. نسب الملك وميلاده ص 1-2

لقد أكّد متّى البشير خلال نسب السيّد المسيح حسب الشريعة اليهوديّة، أنه ابن داود من سبط يهوذا آخِر ملك من السبط الملوكي، بمجيئه انتهت سجلاّت الأنساب، إذ تحقّق هدفها ولا يمكن حاليًا أن يعرف يهودي أنسابه حتى آدم كما كان في أيام السيّد المسيح.

2. السابق للملك ص 3

كانت العادة الشرقية أن يوجد للملك سابق يهيئ له الطريق. هكذا جاء يوحنا المعمدان الملاك الذي يهيئ الطريق للملك السماوي.

3. اختبار الملك ص 4: 1-11

دخول السيّد مع الشيطان في معركة على الجبل ليغلب، فيهب كل شعبه روح الغلبة والنصرة.

4. إعلان الملك ص 4: 12-25

أعلن ملكه السماوي مُقامًا على الأرض.

5. دستور الملك ص 5-7

"الموعظة على الجبل"، الدستور الذي يعيش على أساسه الشعب ليتهيّأوا للحياة السماويّة، ويتمتّعوا بالملكوت.

6. خدمة الملك ص 8-11: 9

إذ أعلن دستوره لشعبه مارس خدمته مع كل المحتاجين، مبتدئًا هنا بتطهيره الأبرص ولمسه ليؤكّد أنه جاء من أجل المرذولين والمنبوذين، وأن الأبرص لن ينجس السيد. ثم شفي خادم قائد المائة ليُعلن أنه جاء بالأكثر من أجل الخدم والعبيد لا يحتقّر إنسانًا لسبب أو آخر.

7. رفض الملك ص 11: 10 – ص 20

خاب أمل اليهود فيه إذ كانوا ينتظرون فيه ملكًا بمفهوم زمني يسيّطر ويملك ويُقيم دولة صهيونيّة تحكم العالم. اختلفت خدمته عمّا في أذهانهم ليفتح الباب للأمم.

8. دخول الملك ص 21-25

دخوله الرسمي إلى العاصمة ليملك على الصليب بعد كشفه عن المفهوم الإنجيلي للملكوت.

9. موت الملك وقيامته ص 26-28

ملك الرب على خشبة، وقام لكي يُقيم المؤمنين أعضاء في مملكته السماويّة.

أقسام السفر

إذ يتحدّث هذا السفر عن المسيّا كرب الملكوت السماوي، يمكننا تقسيم السفر هكذا:

1. نسب الملك وميلاده 1-2.

2. رسول الملك 3.

3. اختبار الملك 4: 1-11.

4. إعلان ملكوته 4: 12-25.

5. دستور الملك 5-7.

6. خدمة الملك 8-11: 19.

7. رفض الملك 1: 20- ص 20.

8. دخوله العاصمة 21-25.

9. موت الملك وقيامته 26-28.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مارينا
نائب مدير
مارينا


عدد المساهمات : 2066
نقاط : 5492
تاريخ التسجيل : 29/03/2011
العمر : 38

مقدمة عن تفسير انجيل متي  Empty
مُساهمةموضوع: تفسير الاصحاح الاول   مقدمة عن تفسير انجيل متي  Icon_minitimeالثلاثاء مايو 10, 2011 8:54 pm

متى 1 - تفسير انجيل متى
نسب الملك وميلاده



إذ يكتب القدّيس متّى الإنجيلي لليهود عن شخص ربّنا يسوع المسيح بكونه المسيّا الملك الذي طالما ترقبه الآباء والأنبياء ليقدّم لنا الخلاص الحقيقي، أعلن عن نسبه وميلاده:

1. نسب المسيح 1.

2. شجرة الأنساب 2-16.

3. عدد الأجيال 17.

4. مريم المخطوبة 18.

5. حلم يوسف 19-24.

6. ميلاد المسيح المبكّر 25.

1. نسب المسيح

ربّما يتساءل البعض: لماذا يهتمّ الكتاب المقدّس بنسب السيّد المسيح، فيذكره الإنجيلي متّى في الافتتاحيّة، والإنجيلي لوقا بعد عماد السيّد (لو 3)؟

أولاً: نحن نعلم أن الغنوسيّة وإن كان قد ظهر كبار رجالها في القرن الثاني الميلادي لكن جذورها بدأت في وقت مبكر جدًا، فقد أنكرت حقيقة التأنُس، مدّعية أن السيّد المسيح قد ظهر كخيالٍ أو وهم، إذ يكرهون الجسد ويعادونه كعنصر ظلمة. ذكر الأنساب هو تأكيد لحقيقة التجسّد الإلهي، فيؤكّد الوحي الإلهي أن ذاك الذي هو فوق الأنساب قد صار حسب الجسد له نسب. يقول القدّيس ساويرس الأنطاكي: [لكي نعرف الذي لا يُحصى في الأنساب، إذ مكتوب عنه: من يعرف جيله؟‍‍‍! (إش 53: Cool، وبالأكثر هذا الذي كان قبل الدهور مساويًا في الأزليّة للآب ذاته، هو نفسه الذي حُسب في الأنساب حسب الجسد، لأنه إذ هو إله في الحقيقة، صار هو ذاته في آخر الأزمة إنسانًا بدون تغيير، وقد أظهره متّى مشتركًا في طبيعتنا حتى لا يقول أحد أنه ظهر كخيالٍ أو وهمِ[47].]

ثانيًا: أراد القدّيس متّى تأكيد أن يسوع هو المسيّا الملك المنتظر، لهذا يفتح سلسلة الأنساب بقوله: "كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم" [1]. يقول القدّيس جيروم: [لقد ترك متّى كل الأسماء ليذكر داود وإبراهيم، لأن الله وعدهما وحدهما (بصراحة) بالمسيح، إذ قال لإبراهيم: "ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض" (تك22: 18)، ولداود "من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك" (مز 132: 11)[48].] لقد ركّز على داود الملك وإبراهيم أب الآباء ليُعلن أنه الملك الموعود به، ابن داود. إنه الملك المختفي وراء طبيعتنا البشريّة والمتخلّي عن كمال مجده وبهائه، حتى يعطي للشيطان فرصة الدخول معه في معركة كسائر البشر، فيغلب السيّد لحسابنا. هذا من جانب، ومن الجانب الآخر فإن اختفاءه يهبنا الفرصة لقبولنا إيّاه فلا نهاب بهاءه ونهرب من جلال عظمته، بل نقبل اللقاء معه والاتّحاد به والثبوت فيه. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لا يظهر الملك على الدوام بالمظهر الخاص به، إنّما يُلقي الأرجوان جانبًا ومعه التاج متنكرًا في زيّ جندي عادي حتى لا يركّز العدوّ هجماته عليه، أمّا هنا فحدث العكس، فقد فعل (الرب) ذلك حتى لا يعرفه العدوّ ويهرب من الدخول معه في معركة، ولكي لا يرتبك شعبه (أمام بهائه)، إذ جاء ليخلّص لا ليرعب[49].]

جاء الملك الحقيقي متأنّسًا كابن لداود الملك مع أن الأخير في حقيقته عبد، لقد رضي أن يكون العبد أبًا له، حتى نقبل نحن العبيد الإله أبًا لنا، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [سمح لنفسه أن يُدعى ابن داود ليجعلك ابن الله! سمح لعبد أن يصير له أبًا، حتى يكون لك أيها العبد الرب أبًا لك!... وُلد حسب الجسد لتُولد أنت حسب الروح! وُلد من امرأة لكي تكف عن أن تكون ابنًا لامرأة[50].]

ثالثًا: أراد بهذا النسب تأكيد أنه من نسل إبراهيم، أب جميع المؤمنين، الذي نال المواعيد إنه بنسله تتبارك جميع أمم الأرض. كأنه قد جاء كسّر بركة لجميع الأمم، مقدّمًا أبوة فائقة لا تقف عند علاقة الجسد والدم كما حصرها اليهود في علاقتهم بإبراهيم، إنّما قدّم الأبوة السماويّة لكل مؤمن من كل أمة!

2. شجرة الأنساب

قدّم لنا معلّمنا متّى نسب الملك قبل عرضه أحداث الميلاد، بينما قدّمه معلّمنا لوقا بعد عرضه للعماد المقدّس (لو 3)، وقد اهتم كثير من الآباء بشرح هذا النسب في شيء من الإطالة، لكنّني أجد نفسي ملتزمًا بعرض مبسّط له، ألخصه في النقاط التالية:

أولاً: جاء النسب هنا في ترتيب تنازلي يبدأ بإبراهيم وينتهي بيوسف رجل مريم الذي وُلد منها يسوع الذي يُدعى المسيح، أمّا في إنجيل معلّمنا لوقا فجاء النسب في ترتيب تصاعدي من يسوع الذي على ما كان يظن ابن يوسف (لو 3: 23) إلى آدم ابن الله. يتحدّث الأول قبل أحداث الميلاد ليُعلن أن كلمة الله المتجسّد هذا وإن كان بلا خطيّة وحدث لكنّه جاء من نسل خاطئ ليحمل عنّا الخطايا التي ورثناها أبًا عن جد، لذا جاء الترتيب تنازليًا... كأن الخطايا تنحدر من جيل إلى جيل ليحملها السيّد على كتفيه. أمّا الإنجيل الآخر فيلتزم بالترتيب التصاعدي إذ يأتي بعد المعموديّة معلنًا عطيّة الرب خلالها، يرفعنا حتى يردنا إلى حالتنا الأولى "آدم ابن الله" (لو3: 38). فالإنجيلي متّى يُعلن المسيّا حامل خطايانا، والإنجيلي لوقا يُعلن تمتّعنا بالبنوّة لله فيه[51].

ثانيًا: اختلاف النسب في القائمتين مرجعه أن متّى وهو يُعلن عن السيّد المسيح كحامل لخطايانا يذكر النسب الطبيعي، حسب اللحم والدم، أمّا لوقا إذ يُعلن عن بنوتنا لله في المسيح يسوع يذكر النسب الشرّعي حيث يمكن لإنسان أن يُنتسب لأب لم يُولد منه جسديًا. نذكر على سبيل المثال كان القدّيس يوسف ابنًا ليعقوب جسديًا، لكنّه ابن هالي شرعًا، لأن هالي مات دون أن ينجب ابنا، فتزوّج يعقوب امرأته لينجب له نسلاً فلا يُمحى اسمه من إسرائيل (تث 25: 5-6؛ مت 22: 24). وكأن القدّيس يوسف خطيب القدّيسة مريم هو ابن لداود الملك حسب القائمتين: سواء النسب الطبيعي أو الشرّعي، بالرغم من اختلافهما.

ثالثًا: إذ كان متّى البشير يتحدّث إلى اليهود ليؤكّد أن يسوع هو المسيّا المنتظر، بدأ النسب بإبراهيم المختار، أمّا لوقا إذ يكتب للأمم انتهى النسب بآدم ابن الله، ليضم البشريّة كلها للبنوة لله.

رابعًا: جاء النسب خاصًا بالقدّيس يوسف لا القدّيسة مريم، مع أن السيّد المسيح ليس من زرعه، ذلك لأن الشريعة الموسويّة تنسب الشخص للأب وليس للأم كسائر المجتمعات الأبوية. فإن كان يوسف ليس أبًا له خلال الدم لكنّه تمتّع ببركة الأبوة خلال التبنّي. لذلك نجد القدّيسة مريم نفسها التى أدركت سرّ ميلاده العجيب تقول للسيد: "لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنّا نطلبك معذّبين" (لو 2: 48). فإن كانت الشريعة تقيم للميّت ابنا (تث 25: 5) متى أنجبت امرأته من الوَلي، فبالأولى ينسب السيّد المسيح كابن ليوسف وهو ليس من زرعه، وقد أعطاه الملاك حقوق الأبوّة كتلقيبه، إذ يقول له: "فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع".

خامسًا: لم يذكر النسب أسماء نساء عظيمات يفتخر بهنّ اليهود كسارة ورفقة وراحيل، إنّما ذكر ثامار التي ارتدَت ثياب زانية (تك 38)، وراحاب الكنعانيّة الزانية (يش 2: 1) وبَتْشبْع التي يلقّبها "التي لأوريّا" مُظهرًا خطيّتها مع داود الملك. وكما يقول القدّيس ساويرس الأنطاكي: [ليكشف أن طبيعتنا التي أخطأت وسقطت، ودارت وتعثّرت في الشهوات غير اللائقة، هي التي جاء المسيح لعلاجها، حتى أنها عندما هربت ضُبطت، وعندما اندفعت وفي ثورتها أسرعت في الابتعاد أمسكها وأوقفها، وأتى بها وقادها إلى الطريق"، "المسيح إذن وضع على ذاته نسب هذه الطبيعة التي تنجّست لكي يطهّرها؛ هذه التي مرضت لكي يشفيها؛ هذه التي سقطت لكي يقيمها، وكان ذلك بطريقة فيها تنازل ومحبّة للبشر[52].] ويقول القدّيس جيروم: [لم يذكر في ميلاد المسيح ونسبه اسم قدّيسة، بل ذكر من شَجَبهنّ الكتاب، وهو يريد القول بأن من جاء من أجل الخطاة وُلد من خاطئات ليمحو خطايا الجميع[53].]

لقد بشر الإنجيلي بنسب الملك في حرّية دون أن يخفي ما يبدو مخزيًا، كاسرًا تشامخ اليهود الذي يكرّرون القول أنهم نسل إبراهيم؛ جاء كطبيب يعالج ضعفنا لا كديّان!

سادسًا: ذكر معلّمنا متّى في النسب بعض النساء الأمميّات مثل راعوث الموآبيّة وراحاب الكنعانيّة، ليُعلن أنه جاء من أجل البشريّة كلها ليخصّ الأمم كما اليهود. ويرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم في راعوث رمزًا لكنيسة الأمم التي تركت بيت أبيها والتصقت بكنيسة الله وقبلت العضويّة فيها، إذ يقول: [أنظر كمثال ماذا حدث لراعوث، كيف أنها تحمل شبهًا للأمور الخاصة بنا. لقد كانت غريبة الجنس، انحطت إلى الفقر المدقع، ومع هذا لما رآها بوعز لم يحتقر فقرها، ولا اشمأز من مولدها الدنيء هكذا إذ يتقبّل المسيح الكنيسة بكونها غريبة وفي فقر شديد، يأخذها كشريكة في البركات العظيمة، لكن يجب أن تكون كراعوث، فإن لم تترك أولاً أباها وترفض بيتها وجنسها ومدينتها وأقرباءها لن تحصل على هذا الزواج. هكذا إذ تترك الكنيسة أيضًا العادات التي تقبلها الناس عن آبائهم عندئذ - وليس قبل ذلك - تصير محبوبة لدى عريسها. في هذا يحدّثها النبي قائلاً: "اِنسي شعبك وبيت أبيك، لأن الملك اشتهى حسنك" (مز 45: 10-11). هذا ما فعلته راعوث فصارت أمّا للملوك كما يحدّث مع الكنيسة[54]".

سابعًا: من بين أسلاف المسيح أشخاص لهم إخوة، ويلاحظ أن السيّد جاء بصفة عامة منحدرًا، لا من الأبناء البكر، بل ممن هم ليسوا أبكارًا حسب الجسد، مثل إبراهيم ويعقوب ويهوذا وداود ويوناثان. لقد جاء السيّد ليُعلن أن البكوريّة لا تقوم على الولادة الجسديّة، وإنما على استحقاق الروح. لقد جاء السيّد (آدم الثاني) بكر البشريّة كلها، فيه يصير المؤمنون أبكارًا، وتُحسب كنيسته كنيسة أبكار[55].

ثامنًا: ذكر معلّمنا متّى في نسب السيّد فارص دون زارح، لأن فارص يمثّل كنيسة الأمم التي صارت بكرًا باتّحادها بالسيّد المسيح البكر، بينما زارح يمثّل اليهود الذين فقدوا البكوريّة برفضهم الاتّحاد مع البكر. لقد أخرج زارح يده أولاً بكونه الابن البكر، لكنّه لم يولد أولاً، بل تقدّمه فارص، فاحتل مركزه، ونعِمَ بالبكوريّة. هكذا ظهر اليهود أولاً كبكر للبشريّة، لكنهم حُرموا من البكوريّة، وتمتّع بها الأمم عوضًا عنهم.

تاسعًا: ذكر سبي بابل ليؤكّد أنه بالرغم من تأديبات الشعب بالسبي زمانًا طويلاً لكنّه حافظ على أنسابه، ليتحقّق الوعد الإلهي بمجيء المخلّص. يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على ذكر السبي دون الإشارة إلى التغرّب في مصر، قائلاً: [لأنهم لم يعودوا بعد يخافون المصريّين، وإنما كانوا لا يزالون يخافون البابليّين. الأول (النزول إلى مصر) أمر قديم، أمّا الثاني فكان لا يزال جديدًا، حدث مؤخّرًا. الأول لم يحدث بسبب خطايا ارتكبوها، أمّا الآخر فبسبب معاصيهم[56].]


3. عدد الأجيال

يقسّم الإنجيلي الأجيال من إبراهيم إلى مجيء السيّد إلى ثلاث حقبات، كل حقبة تضم 14 جيلاً:

أ. من إبراهيم إلى داود، تنتهي الحقبة بالمجد الملوكي مُعلنًا في داود.

ب. من داود إلى سبي بابل، تنتهي بالعار في السبي.

ج. من السبي إلى السيّد المسيح، تنتهي بتحقيق الخلاص، ونزع العار حيث يملك المسيّا. في دراستنا لسفر الخروج (ص 33) لاحظ العلاّمة أوريجينوس أن عدد المحطات التي توقّف عندها الشعب قديمًا من رعمسيس إلى الجانب الشرقي لنهر الأردن 42 محطة، تمثّل الأجيال التي ذكرها متّى البشير (3 حقبات ×14 جيلاً = 42)، وكأن الرحلة تمثّل عبور البشريّة كلها في برّيّة هذا العالم، لتنطلق من أرض العبوديّة وأسر فرعون الحقيقي، أي إبليس، والدخول إلى أرض الموعد حيث ننعم بمجد أولاد الله. مجيء السيّد من امرأة يقدّم لكل مؤمن إمكانيّة هذا العبور ليدخل به بالروح القدس إلى حضن الآب السماوي. مصدر المقال: موقع الأنبا تكلاهيمانوت.

وقد لاحظ القدّيس أغسطينوس[57] في هذا النسب أن يكنيا قد تكرّر مرّتين في نهاية الحقبة الثانية، وبدْء الحقبة الثالثة [11-12]، فقد عاصر يكنيا السبي البابلي بعد أن عُين ملكًا عوضًا عن أبيه. لم يذكر الكتاب المقدّس شيئًا عن خطاياه، وإنما ذكر خطايا الشعب والرؤساء. لقد نُزع عنه الملك، وأُقتيد إلى السبي من أجل خطايا الشعب. وكأن يكنيا يمثّل السيّد المسيح الذي يُحصى مرّتين، جاء لليهود ليخلّصهم، وإذ رفضوه عبر إلى الأمم (بابل) ليخلّصهم. إنه حجر الزاوية المرفوض (مز 118: 22) ربط حائط الأمم بحائط اليهود، ليُقيم كنيسة واحدة للجميع.

يرى[58] G. G. Boxأن الإنجيلي متّى قسّم الأجيال إلى ثلاثة مجموعات، كل مجموعة تقوم على أساس الرقم الفلكي لاسم داود الذي في مجموع حروفه بالعبريّة "14"، وكأن القدّيس أراد تأكيد نسب السيّد المسيح لداود الملك ثلاث مرّات، أو كأن السيّد هو الملك لكل الحقبات الزمنيّة.

4. مريم المخطوبة

"وأما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا:

لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا

وُجدت حبلى من الروح القدس" [18].

أكدّ الكتاب المقدّس أن الحبل به في أحشاء القدّيسة مريم تحقّق بالروح القدس، الذي هيّأها وقدّسها ليحل كلمة الله فيها، ابن الله الوحيد. إنه ليس من زرع بشر، إذ تحقّق الحبَل وهي مخطوبة للقدّيس يوسف. وكانت الخطبة ليوسف البار أمرًا ضروريًا، لأسباب كثيرة منها ما ذكره القدّيس جيروم[59]:

أولاً: لكي يُنسب للقدّيس يوسف قريب القدّيسة مريم، فيظهر أنه المسيّا الموعود به من نسل داود من سبط يهوذا.

ثانيًا: لكي لا تُرجم القدّيسة مريم طبقًا للشريعة الموسويّة كزانية، فقد سلّمها الرب للقدّيس البار الذي عرف برّ خطيبته، وأكّد له الملاك سرّ حبلها بالمسيّا المخلّص.

ثالثًا: لكي تجد القدّيسة معها من يعزّيها، خاصة أثناء هروبها إلى أرض مصر. مصدر المقال: موقع الأنبا تكلاهيمانوت.

أما لماذا وُلد السيّد من امرأة أو عذراء؟ فيجيب القدّيس أغسطينوس، قائلاً:

v لو تجنّب الميلاد منها، لظننا كما لو كان الميلاد منها ينجِّسه، مادام جوهره لا يتدنّس فلا خوف من الميلاد من امرأة.

v بمجيئه رجلاً دون ولادته من امرأة، يجعل النساء ييأسْنَ من أنفسهن متذكّرات الخطيّة الأولى... وكأنه يخاطب البشريّة، قائلاً: ينبغي أن تعلموا أنه ليس في خليقة الله شرًا، إنّما الشهوة المنحلّة هي التي أفسدت الخليقة. انظروا، لقد وُلدت رجلاً، ووُلدت من امرأة، فأنا لا احتقر خليقتي، بل ازدري بالخطيّة التي لم أجبلها... لنفس السبب نجد النساء هن أول من بشرن بالقيامة للرسل. ففي الفردوس أعلنت المرأة عن الموت لرجلها، وفي الكنيسة أعلنت النساء الخلاص للرجال[60].

القدّيس أغسطينوس

يُعلّق هلفيديوس في أواخر القرن الرابع على قول الإنجيلي: "قبل أن يجتمعا وُجدت حبلى"، بأن في هذا دليل ضمني على اجتماعهما بعد ولادة السيد، ناكرًا بتوليّة القدّيسة مريم، وقد سبق لي معالجة هذا الأمر في شيء من التوسّع، لذا أكتفي ببعض عبارات للقدّيس جيروم في الرد عليه: [لو أن انسانًا قال: قبل الغذاء في الميناء أبحرت إلى أفريقيا"، فهل كلماته هذه لا تكون صحيحة إلا إذا أرغم على الغذاء بعد رحيله! وإن قلت أن "بولس الرسول قُيّد في روما قبل أن يذهب إلى أسبانيا"، أو قلت "أدرك الموت هلفيديوس قبل أن يتوب" فهل يلزم أن يحلّ بولس من الأسر ويمضي مباشرة إلى أسبانيا، أو هل ينبغي لهلفيديوس أن يتوب بعد موته؟... فعندما يقول الإنجيلي "قبل أن يجتمعا" يُشير إلى الوقت الذي سبق الزواج مظهرًا أن الأمور قد تحقّقت بسرعة حيث كانت هذه المخطوبة على وشك أن تصير زوجة... وقبل حدوث ذلك وُجدت حُبلى من الروح القدس... لكن لا يتبع هذا أن يجتمع بمريم بعد الولادة[61].]

5. حلم يوسف

"فيوسف رجلها إذ كان بارًا ولم يشأ أن يشهرها،

أراد تخليتها سرًا" [19].

كانت علامات الحمل قد بدأت تظهر على القدّيسة مريم، الأمر الذي كان كافيًا لإثارة الغضب، بل وتعطيه الشريعة حق تقديمها للكهنة لمعاقبتها بالرجم، لكنّه إذ كان بارًا، وقد لمس في القدّيسة عفّتها وطهارتها ارتبك للغاية. في حنو ولطف لم يفتح الأمر مع أحد حتى مع القدّيسة نفسها، ولا فكّر في طردها وإنما "أراد تخليتها سرًا" أيضًا تطليقها. فنحن نعرف أن الخطبة في الطقس اليهودي تعطي ذات الحقوق والالتزامات الخاصة بالزواج فيما عدا العلاقة الزوجيّة الجسديّة. هذا هو السبب لدعوة الملاك إيّاها "امرأتك" [20]، الأمر الذي سبق لنا دراسته[62].

يُعلّق القدّيس يعقوب السروجي على هذا التصرّف النبيل من جانب القدّيس يوسف، قائلاً:

[نظر الشيخ إلى بطنها، تلك المخطوبة له، وتعجّب الصِدّيق!

رأى صبيّة خجولة عاقلة، فبقى داهشًا في عقله!

شكلها متواضع، وبطنها مملوءة، فتحيّر ماذا يصنع؟!

منظرها طاهر، ورؤيتها هادئة، والذي في بطنها يتحرّك!

طاهرة بجسدها، وحبلها ظاهر، فتعجّب من عفّتها والمجد الذي لها، وبسبب حبلها كان غاضبًا...

كان البار حزين القلب على حبل العذراء النقيّة، وأراد أن يسألها فاستحى... وفكّر أن يطلّقها سرًا[63].]

ربّما يتساءل البعض، وهل من ضرورة لتخليتها سرًا؟ يجيب القدّيس جيروم بأن العلامات كانت واضحة، فإن لم يتخلَ عنها يُحسب مذنبًا حسب الشريعة، فإنه ليس فقط من يرتكب الخطيّة يتحمّل وزرها، وإنما من يشاهدها ولا يتخذ موقفًا منها[64].

"ولكن فيما هو متفكر في هذه الأمور،

إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم، قائلاً:

يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك،

لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس" [20].

إذ رأى الله ارتباك هذا البار مع سلوكه بحكمة ووقار أراد أن يطمئنه، فأظهر له ملاكًا في حلم يكشف له عن سرّ الحبل. إنه لم يقدّم له رؤيا في يقظته، [إذ كان متزايدًا جدًا في الإيمان وليس في حاجة إلى الرؤية [65]]، كقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم.

يُعلّق القدّيس جيروم على دعوة الملاك للقدّيسة مريم أنها امرأة يوسف، قائلاً: [نحن نعرف أنه من عادة الكتاب المقدّس أن يعطي هذا اللقب للمخطوبات. هذا ما يؤكّده المثل التالي من سفر التثنية: "إذ كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها، فاخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة ورجموهما حتى يموتا؛ الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه، فتنزع الشرّ من وسطك[66]" (تث 22: 23-24) راجع (تث 20: 7)] كما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هنا يدعو الخطيبة زوجة، كما تعوّد الكتاب أن يدعو المخطوبين أزواجًا قبل الزواج. وماذا تعني "تأخذ"؟ أي تحفظها في بيتك، لأنه بالنيّة قد اخرجها. احفظ هذه التي اخرجتها، كما قد عُهد بها إليك من قبل الله، وليس من قبل والديها[67].]

"فستلدابنًا وتدعو اسمه يسوع،

لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم.

وهذا كلّه كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل:

هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعون اسمه عمانوئيل

الذي تفسيره الله معنا" [21-23].

لقد أعطى الملاك ليوسف البار هذه الكرامة أن يمارس الأبوة مع أن السيّد المسيح ليس من زرعه، فأعطاه حق تسُمّيته، وإن كان الاسم ليس من عنديّاته بل بإعلان إلهي. إنه "يسوع" التي تعني في العبريّة "يهوه يخلّص"، وكما يقول الملاك " لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم". يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [شعبه ليس هم اليهود وحدهم، وإنما يشمل كل من يقتربون إليه، ويتقبّلون المعرفة الصادرة عنه[68].]

أما كلمة "عذراء" ففي العبريّة "آلما Olmah"، هي تخص فتاة عذراء يمكن أن تكون مخطوبة لكن غير متزوجة، وجاءت مطابقة على القدّيسة مريم تمامًا[69]".

6. ميلاد المسيح المبكّر

"لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر،

ودعا اسمه يسوع" [25].

اعتمد هلفيديوس في إنكاره دوام بتوليّة القدّيسة مريم على هذه العبارة، قائلاً بأن كلمة "حتى" تعني أنه عرفها بعد الميلاد، وأن عبارة "ابنها البكر" تُشير إلى وجود أبناء آخرين ليسوا أبكارًا. يجيب القدّيس جيروم بأن كلمة "يعرفها" لا تعني حتمًا المعاشرة الزوجيّة، وإن كان يمكن أن تعني هذا، وكأن القدّيس يوسف لم يعرف القدّيسة مريم فيما نالته من نعم عظيمة حتى ولدت يسوع المسيح. أما كلمة "حتى" فلا تعني أن معرفته لها - بالجانب الجسدي - تحقّق بعد الولادة، وقد أعطى القدّيس جيروم أمثله لذلك. عندما يقول الرسول: "لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه" (1 كو 15: 25)؛ هل سيملك الرب حتى يصير أعداؤه تحت قدميه وعندئذ يتوقّف ملكه؟ أيضًا يقول المرتّل: "أعيننا إليك يا الله حتى يتراءف علينا" (مز 123: 2)، فهل يتطلّع النبي نحو الله حتى ينال الرأفة وعندئذ يحول عينيّه عنه إلى الأرض؟! يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [استخدم هنا كلمة "حتى" لا لكي تشك وتظن أنه عرفها بعد ذلك، إنّما ليخبرك أن العذراء كانت هكذا قبل الميلاد لم يمسها رجل قط. ربّما يقال: لماذا استخدم كلمة "حتى"؟ لأنه اعتاد الكتاب أن يستعمل هذا التعبير دون الإشارة إلى أزمنة محدّدة. فبالنسبة للفَلك قيل إن الغراب لم يرجع حتى جفت الأرض (تك 8: 7) مع أنه لم يرجع قط[70].]

أما من جهة تعبير: "البكر" فلا يعني أن السيّد المسيح له إخوة أصغر منه من مريم وأنه هو بكرها. فإن كل فاتح رحم يُحسب بكرًا حتى ولو لم يكن بعده إخوة أصغر منه. يقول القدّيس جيروم في ردّه على هلفيديوس: [كل ابن وحيد هو بكر، ولكن ليس كل بكر هو ابن وحيد. فإن تعبير "بكر" لا يُشير إلى شخص له إخوة أصغر منه، وإنما يُشير إلى من يسبقه أخ أكبر منه يقول الرب لهرون: "كل فاتح رحم من كل جسد يقدّمونه إلى الرب: من الناس والبهائم يكون لك. ولكن بكر الإنسان ينبغي لك أن تقبل فداءه. وبكر البهائم النجسة تقبل فداءه" (عد 18: 15). قول الرب هنا يّعرف البكر على كل فاتح رحم[71].] لو كان يلزم أن يكون له اخوة أصاغر لكان ينبغي ألا يقدّم البكر من الحيوانات الطاهرة للكهنة إلا بعد ولادة أصاغر بعده، وما كانت تدفع فدية الإنسان والحيوان النجس إلا بعد التأكّد من إنجاب اخوة أصاغر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مارينا
نائب مدير
مارينا


عدد المساهمات : 2066
نقاط : 5492
تاريخ التسجيل : 29/03/2011
العمر : 38

مقدمة عن تفسير انجيل متي  Empty
مُساهمةموضوع: تفسير الاصحاح الثانى   مقدمة عن تفسير انجيل متي  Icon_minitimeالثلاثاء مايو 10, 2011 8:57 pm

متى 2 - تفسير انجيل متى
سجود الملوك للملك


إذ وُلد المسيّا الملك جاء المجوس يمثّلون كنيسة الأمم المنجذبة لعريسها الملك، تقبل حبّه وتتعبّد له، تقدّم له حياتها تقدمة حب مقابل ذبيحة حبّه اللانهائي:

1. مجيء المجوس 1-6.

2. ثورة هيرودس 7-8.

3. سجود المجوس 9-11.

4. انصراف المجوس 12.

5. الهروب إلى مصر 13-15.

6. قتل أطفال بيت لحم 16-18.

7. العودة إلى الناصرة 19-23.

1. مجيء المجوس

حقًا إن مجيء كلمة الله متجسّدًا قد شغل ذهن الله قبل خلقتنا، وقد هيأ له وسط شعبه بالآباء والأنبياء والناموس، بطرق متنوّعة، ومع هذا إذ تحقّق الأمر تجاهله الشعب تمامًا اللهمّ إلا القليل النادر. لهذا قدّم الله توبيخًا خلال الغرباء، فجاء إليه المجوس كباكورة كنيسة الأمم. جاءوا إلى بلدٍ غريبٍ ليسجدوا لطفل بسيط في مزود، وليس مولود قصر ملكي، لكن يقود موكبهم نجم سماوي، يُعلن عن وجود سرّ خفي فيه.

والمجوس هم كهنة وفي نفس الوقت ملوك كلدانيون أو فارسيون يقضون جل وقتهم في دراسة الظواهر الفلكية والتكهن بالحوادث المقبلة.

غالبًا ما جاء المجوس في موكب عظيم يتقدّمهم ثلاثة من كبارهم يحملون الهدايا للملك العجيب، هؤلاء يمثّلون كل أجناس البشريّة المتسلسلة عن أولاد نوح الثلاثة: سام وحام ويافث. وكأنهم بكور الشعوب الأممية جاءوا يلتفون مع بسطاء اليهود - الرعاة - في السجود للمسيّا، فيضمهم معًا كنيسة واحدة له. يقول القدّيس أغسطينوس: [من هم هؤلاء المجوس إلا بكور الأمم؟ لقد كان الرعاة إسرائيليّين والمجوس أمميّين. كان الأوّلون ملاصقين له، والآخرون جاءوا إ ليه من بعيد. لقد أسرع الكل إلى حجر الزاوية[72]".]

وما هو هذا النجم؟ يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أنه لم يكن نجمًا حقيقيًا كسائر النجوم، إنّما هو ملاك ظهر في شكل نجم أرسله الله لهداية المجوس العاملين في الفلك، ويعلّل ذلك بالآتي:

أولاً: أن مسار النجم الذي ظهر مختلف عن مسار حركة النجوم الطبيعيّة.

ثانيًا: كان النجم ساطعًا في الظهيرة والشمس مشرقة، وليس كبقيّة النجوم تسطع ليلاً.

ثالثًا: كان يظهر أحيانًا ويختفي أحيانًا أخرى.

رابعًا: كان منخفضًا، قادهم إلى حيث المزود تمامًا.

ويرى العلاّمة أوريجينوس أنه نجم حقيقي لكنّه من نوع فريد، إذ يقول: [إننا نعتقد أن الذي ظهر في المشرق كان نجمًا جديدًا، ليس كالنجوم العاديّة... لكنّه يُحسب في عداد المذنبات التي تشاهد في أحيان كثيرة، أو النيازك، أو النجوم الملتحمية أو النجوم التي على شكل الجرار، أو أي اسم ممّا يصف به اليونانيّون أشكالها المختلفة[73].]

لماذا استخدم النجم؟

أولاً: استخدم الله كل وسيلة للحديث مع شعبه موضّحًا لهم أسرار التجسّد الإلهي وأعماله الخلاصيّة، لكن إذا أظلمت عيون قلوبهم بظلمة الشرّ وتقسّى قلبهم، بعث إليهم غرباء الجنس كعطشى للحق يوبّخونهم. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لتوبيخ اليهود على قسوتهم، ولينزع عنهم كل عذر يحتجّون به على جهلهم الإرادي[74].] ويقول القدّيس جيروم: [لكي يعرف اليهود بنبأ ميلاد المسيح من الوثنيّين حسب نبوّة بلعام أحد جدودهم، بأن نجمه يظهر من المشرق. وإذ أرشد النجم المجوس حتى اليهوديّة وتساءل المجوس عنه، لم يبقَ لكهنة اليهود عذر من جهة مجيئه[75].] حقًا في كل عصر إذ يتقسّى قلب المؤمنين أبناء الملكوت يحدّثهم الرب أحيانًا خلال الملحدين والأشرار الذي يقبلون الإيمان في غيرة متّقدة توبّخهم.

ثانيًا: الله الذي يحب البشريّة كلها يُعلن ذاته للجميع، محدثًا كل واحدٍ بلغته. فقد تحدّث مع اليهود بالناموس والنبوّات، واستخدم الفلسفات اليونانيّة بالرغم ممّا ضمّته من أضاليل كثيرة كطريق خلاله قبل كثير من الفلاسفة إنجيل الحق. وها هو يحدّث المجوس رجال الفلك بلغتهم العمليّة.

يحدّث الله كل إنسان باللغة التي يفهمها، فأرسل للرعاة ملائكة وللمجوس نجمًا يقول القدّيس أغسطينوس: [أظهر الملائكة المسيح للرعاة، وأعلن النجم عنه للمجوس. الكل تكلم من السماء!... الملائكة تسكن السماوات، والنجم يزيّنها، وخلال الاثنين تُعلن السماوات مجد الله[76].] ويقول الآب غريغوريوس الكبير: [كان من اللائق أن كائنًا عاقلاً، أي ملاكًا هو الذي يخبر هؤلاء الذين استخدموا عقولهم في معرفة الله، أمّا الأمم فإذ لم يعرفوا أن يستخدموا عقولهم في معرفته لم يقدهم الصوت الملائكي بل العلاّمة (النجم). لهذا السبب يقول بولس أن النبوّة ليست لغير المؤمنين بل للمؤمنين، وأما الآية (العلامة) فليست للمؤمنين بل لغير المؤمنين (1 كو 14: 22)[77].] ويرى بعض الآباء مثلالعلاّمة أوريجينوس[78] أن المجوس أدركوا أن تعاويذهم قد بطلت، وشعروا أثناء عملهم أن أمرًا يفوق السحر قد حدث في العالم، فتطلّعوا إلى النجوم ليروا علامة من الله في السماء، عندئذ أدركوا كلمات بلعام: "يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل... " (عد 24: 17). يقول القدّيس جيروم: [تعلّموا عن ظهور هذا النجم من نبوّة بلعام إذ هم من نسله[79].]

ثالثًا: يرى البعض أن المجوس تسلّموا هذا التقليد الخاص بظهور النجم عند مجيء الملك المخلّص عن دانيال النبي الذي عينه الملك كبيرًا للمجوس حين كان في السبي البابلي، وفد حدّد في نبوّاته موعد مجيئه.

رابعًا: أراد الله أن يخرج من الآكل أكلاً، ومن الجافي حلاوة، فالنجوم التي اُستخدمت كوسيلة للتضليل يعبدها الناس (عا 5: 26) صارت وسيلة للدخول بهم إلى الالتقاء مع الله. حقًا ما أعجب معاملات الله معنا، إنه لا يحطّم ما لنا حتى إن صار طريقًا للشرّ إنّما يغيّر مساره ويحوّله إلى الخير؛ عِوض أن يكون خادمًا لمملكة الظلمة يصير آلة برّ لحساب مملكة النور. كل ما وهبنا الله من طاقات ومواهب ومشاعر ودوافع إن تدنّست لا يحطّمها الله، بل بروحه القدّوس يجدّدها ويقدّسها لتصير سرّ بنياننا الروحي ووسائط للشهادة له.

والعجيب أن الله استخدم النجوم للكرازة بين الفلكيّين، فإذا ببعضهم أرادوا تأكيد مفاهيمهم الشرّيرة بذات العمل الإلهي الفائق، فادّعوا أن لكل إنسان نجمه الذي يُسيّر حياته لا يقدر أن ينحرف عنه. وقد انبرى كثير من الآباء يواجهون هذه الادعاءات مثل الآباء غريغوريوس الكبير[80]، يوحنا الذهبي الفم[81]، وأغسطينوس[82]. نذكر على سبيل المثال بعض عبارات للقدّيس أغسطينوس: [لم يكن للنجم الذي رآه المجوس السلطان على المسيح المولود حديثًا، لم يكن هذا النجم أحد النجوم التي خُلقت في بدء الخليقة ويجرى في مساره حسب قانون خالقه، إنّما كان نجمًا جديدًا ظهر في هذا الميلاد العجيب من عذراء، وعكس خدمته على المجوس الباحثين عن امرأة، فتقدّمهم ليضيء لهم الطريق حتى قادهم إلى الموضع حيث فيه كان كلمة الرب كطفل. لم يُولد الطفل لأن النجم كان هناك، وإنما جاء النجم لأن المسيح قد وُلد. إن كان يجب أن نتحدّث عن المصير بالأحرى دعنا نقول لم يحدّد النجم مصير المسيح (كما يدَّعي المنجّمون) بل المسيح الذي حدّد مصير النجم.]

خامسًا: جاء النجم يكمّل شهادة الطبيعة للسيّد المسيح. إن كانت البشريّة العاقلة لم تعرف كيف تستقبله كما يجب انطلقت الطبيعة الجامدة تشهد له بلغتها الخاصة. يقول القدّيس أغسطينوس: [شهدت له السماوات بالنجم، وحمله البحر إذ مشى عليه (مت 14: 25)، وصارت الرياح هادئة ومطيعة لأمره (مت 23: 27)، وشهدت له الأرض وارتعدت عند صلبه (مت 27: 51)[83].] هكذا قدّمت الطبيعة تمجيدًا لخاِلقها بلغتها، ونحن أيضًا إذ صرنا سماءً يليق بنا أن نشهد له بظهور نجمه فينا يقود الخطاة إلى المسيّا المخلّص، ينحنون له ويتعبّدون بالحق. ما هو هذا النجم إلا سِمة الصليب الحيّ المعلن في حياتنا الداخليّة وتصرّفاتنا في الرب. يقول القدّيس أغسطينوس: [عرفه المجوس بواسطة نجم كعلامة سماويّة وجميلة قدّمها الرب، لكنّه لا يرغب فينا أن يضع المؤمن نجمًا على جبهته بل صليبًا. بهذا يتّضع المؤمن ويتمجّد أيضًا، فيرفع الرب المتواضعين، هذا الذي في تواضعه تنازل.]

متى بدأ ظهور النجم؟

يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن النجم قد ظهر مبكرًا قبل الميلاد ربّما بحوالي سنتين، حيث قاد المجوس ليبلغوا بيت لحم في وقت الميلاد. ويرى البعض أنه ظهر عند ميلاده، وقد أخذ المجوس بعض الوقت حتى بلغوا بيت لحم، لهذا إذ تحقّق هيرودس الأمر أمر بقتل الأطفال من سنتين فما دون، إذ حسب المدّة بناءً على ظهور النجم.

بالنجم التقَى المجوس باليهود

يروي لنا الإنجيلي اللقاء الذي تمّ بين المجوس واليهود على كل المستويات، خاصة الملك ورؤساء الكهنة وكتبة الشعب، إذ يقول: "ولما وُلد يسوع في بيت لحم اليهوديّة في أيام هيرودس الملك، إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم، قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟ فإنّنا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له. فلما سمع هيرودس الملك اضطرب وجميع أورشليم معه. فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم: أين يُولد المسيح؟ فقالوا له: في بيت لحم اليهوديّة، لأنه هكذا مكتوب بالنبي: وأنتِ يا بيت لحم أرض يهوذا لستِ الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل" [1-6].

لقد وُلد السيّد في "بيت لحم" التي تعني "بيت الخبز"، فجاء إلينا خبزًا سماويًا يتناوله الجياع والعطاش إلى البرّ. للأسف جاء المجوس من المشرق يحتملون آلام الطريق وأتعابه، يبحثون عن غذاء نفوسهم، بينما بقيَ الملك ورؤساء الكهنة والكتبة في أماكنهم يرشدون الغرباء للخبز الحيّ، وأما هم فلا يقتربون إليه. لعلّهم صاروا كالعاملين في بناء فلك نوح، الذين هيّأوا فلك الخلاص ولم يدخلوه!

حقًا ما أبعد الفارق بين المجوس ورؤساء اليهود، فقد تمتّع الغرباء بسرّ الحياة، وحُرم الرؤساء منه


يقول القدّيس أغسطينوس: [صار اليهود أشبه بالنجّارين الذين صنعوا فلك نوح، فأقاموا لغيرهم طريق النجاة، أمّا هم فهلكوا في الطوفان. إنهم يشبهون المعالم التي توضع للكشف عن الطريق لكنها تعجز عن السير فيه. السائلون تعلّموا وكمّلوا الطريق، والمعلّمون نطقوا بالتعليم وبقوا متخلّفين[84].] ويقول القدّيس يعقوب السروجي: [صاروا كارزين له وهم سائرون في الطريق، يبشّرون بأن ملكًا للعالم كلّه قد أشرق. انبسطت كرازتهم لأميال في الطريق، وكسروا قلوب الملوك الذين جازوا في تخومهم، حثّهم الحق ليكونوا له كارزين. الذين هم من الخارج صاروا شهوده وبلغوا أرض اليهوديّة... نظروها فإذا هي هادئة والسكوت يخيّم على حكمائها الذين لم يُدركوا الملك الآتي لخلاصهم. أتى البعيدون ليبشّروا القريبين بميلاد الملك. ابنة الكلدانيّين أرسلت الهدايا للمخلّص، وابنة إبراهيم التي في بيته لم تكرمه[85].]

2. ثورة هيرودس

تكرّر اسم هيرودس بين عدد من حكّام فلسطين وملوكها أو بعض أجزاء منها أو المناطق القريبة إليها، وفي العهد الجديد ذُكر أربعة ملوك بهذا الاسم، وكان ذلك أثناء الحكم الروماني على فلسطين، من بينهم هيرودس الكبير هذا. وكان هيرودس هذا أدوميًا مولدًا، تجري في عروقه العداوة ضدّ اليهود. لم يكن له حق المُلك، لكنّه صار ملكًا على اليهوديّة، بمساعدة الرومان الذين تحالف معهم أبوه، وكان عنيفًا وشاذًا صار في أواخر أيّامه عرضة للهواجس. كان محبًا لسفك الدماء، قتل الكثير من أعضاء السنهدرين، كما قتل ابنيه الإسكندر وأرسطوبولس، وقبل موته بخمسة أيام قتل ابنه أنتياباتير. وفيما هو يسلّم أنفاسه الأخيرة أمر بقتل جميع عظماء أورشليم حتى يعم الحزن المدينة، ولا يجد الملك الجديد مجالاً للبهجة، لكنّه مات قبل أن تتحقّق أمنيته الأخيرة.

مات هيرودس بعد قتل أطفال بيت لحم بثلاثة شهور، وقد وصف المؤرخ اليهودي يوسيفوس، كيف اشتدّت شراهته في الفترة الأخيرة في أكل اللحم بدرجة بالغة، وأصيب بمرض النقرس وداء الاستسقاء، وقد تصاعدت منه رائحة كريهة جدًا، حتى لم يقدر أحد أن يقترب إليه.

هذه الصورة تكشف لنا عن مشاعر هذا الوحش المفترس، عند سماعه عن موكب المجوس ومجيئهم للسجود لملك اليهود. لقد جمع عدوّ اليهود رؤساء الكهنة والكتبة يسألهم خشية أن يسحب الكرسي من تحته. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لقد خشيَ أن ترجع المملكة إلى يهودي، فيطرده اليهود هو وذرّيته ويقطعونهم من الملوكيّة. حقًا كثيرًا ما يتعرّض السلطان العظيم لمخاوف شديدة. فإن الأفنان (أعالي الأشجار) يمكن أن تحرّكها ريح خفيف، وهكذا الذين يسكنون الأماكن العالية تهزّهم كل إشاعة! أمّا الذين يقطنون الأماكن المنخفضة، أيّا كانت، فيكونون كالأشجار التي في الوادي غالبًا ما لا تؤثّر فيها الرياح[86].] ويقول الأب غريغوريوس الكبير: [اضطرب الملك الأرضي عندما وُلد الملك السماوي، لأن السيادة الأرضيّة تضطرب عندما تظهر العظمة السماويّة[87].]

اضطرب هيرودس الأرضي الذي اتسم بالشرّ عندما أدرك أن من تخدمه النجوم السماويّة قد جاء. حقًا إن تجلِّي رب المجد يسوع في القلب كما في مزود يزعزع هيرودس (الشيطان) الطاغية، الذي يملك بالشرّ. وكأنه إذ يملك الرب بصليبه فينا تنهار مملكة إبليس ولا تقدر أن تثبت.

أخفى هيرودس اضطرابه بمظاهر الخداع، إذ يقول الإنجيلي: "حينئذ دعا هيرودس المجوس سرًا. وتحقّق منهم زمان النجم الذي ظهر. ثم أرسلهم إلى بيت لحم، وقال: اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي، ومتى وجدّتموه فأخبروني، لكي آتي أنا أيضًا وأسجد له" [7-8]. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لكي يغريهم على ذلك تظاهر بالتقوى، مخفيًا السيف وراءها. رسم بالألوان شكل البساطة على حقد قلبه. هذا هو طريق كل فاعلي الشرّ، إذ يخطّطون في الخفاء ليجرحوا الآخرين، فيتظاهرون بالبساطة والصداقة[88].]

3. سجود المجوس

"فلما سمعوا من الملك ذهبوا،

وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدّمهم

حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي.

فلما رأوا النجم فرحوا فرحًا عظيمًا جدًا.

وأتوا إلى البيت،

ورأوا الصبي مع مريم أمه،

فخّروا وسجدوا له،

ثم فتحوا كنوزهم،

وقدّموا له هدايا ذهبًا ولبانًا ومرًا" [9-11].

إذ تركوا الملك ظهر لهم النجم وصار يتقدّمهم ليدخل بهم إلى حيث كان السيّد المسيح مضجعًا. ما أحوجنا أن نخرج من دائرة هيرودس الخفي، أي دائرة الخطيّة عمل إبليس، لتتكشّف لنا علامات الطريق الملوكي بوضوح.

يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن النجم الذي رآه المجوس وتقدّمهم إلى بيت لحم إنّما هو خدمة الفقراء والمحتاجين، إذ يقول: [رأوا النجم وكانوا فرحين، وها أنت ترى المسيح نفسه غريبًا وعريانًا ولا تتحرّك!... هم قدّموا ذهبًا وأنت بالكاد تقدّم قطعة خبز![89]]

برؤيتهم للسيّد استراحت قلوبهم وزالت عنهم كل المتاعب، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [قبل رؤيتّهم الطفل كانت المخاوف والمتاعب تضغط عليهم من كل جانب، أمّا بعد السجود فحلّ الهدوء والأمان... لقد صاروا كهنة خلال عمله التعبُّدي، إذ نراهم يقدّمون هدايا[90].]

ماذا تعني هدايا المجوس؟

يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لم يقدّموا غنمًا ولا عجول، بل بالأحرى قدّموا الأمور التي تقترب بهم إلى قلب الكنيسة، إذ جاءوا إليه ببداءة التقدمة: معرفة وحكمة وحبًا[91].]

ويقول الأب غريغوريوس الكبير: [يقدّم الذهب كجزية الملك، ويقدّم البخور تقدمة لله، ويستخدم المرّ في تحنيط أجساد الموتى. لهذا أعلن المجوس بعطاياهم السرّيّة للذين يسجدون له بالذهب أنه الملك، وبالبخور أنه الله، وبالمرّ أنه يقبل الموت... لنُقدّم للرب المولود الجديد ذهبًا، فنعترف أنه يملك في كل موضع، ولنقدّم له البخور إذ نؤمن أنه الله ظهر في الزمان، مع أنه قبل كل زمان. ولنقدّم له المرّ، مؤمنين أنه وإن كان في لاهوته غير قابل للألم، فقد صار قابلاً للموت في جسدنا. ويمكننا أيضًا بهذه العلامات أن نفهم شيئًا آخر. الذهب يرمز للحكمة كما يشهد سليمان: "كنز مشتهى في فم البار" (أم 21: 20 الترجمة السبعينيّة). والبخور الذي يُحرق أمام الله يرمز لقوة الصلاة كقول المزمور: "لتستقم صلاتي كالبخور قدامك" (مز 141: 2)، والمرّ يرمز لإماتة أجسادنا، حيث تقول الكنيسة المقدّسة لعامليها الذين يعملون فيما لله حتى الموت: "يداي تقطران مرًا" (نش 5:5). إننا نقدّم للملك الجديد الذهب، إن كنّا في عينيّه نضيء بنور الحكمة السماويّة، ونقدّم له بخورًا إن كنّا نحرق أفكار الجسد على مذبح قلوبنا، فنرفع لله اشتياقاتنا السماويّة رائحة طيّبة. ونقدّم له المرّ عندما نُميت بالنسك شرور (شهوات) الجسد، فنقول إنه بالمرّ نحفظ الجسد الميّت من الفساد، كما نقول عن الجسد بأنه فسد متى غلبته الخلاعة، إذ قيل بالنبي، "تعفّنت الحيوانات في روثها[92]". الحيوانات التي تهلك في روثها تُشير إلى الجسدانيّين الذي يختمون حياتهم وسط غباوة شهواتهم. إذن فلنقدّم لله مرًا لحماية أجسادنا المائتة من فساد الخلاعة ويحفظ في الطهارة[93].]

4. انصراف المجوس

"ثم إذ أوحي إليهم في حلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس،

انصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم" [2].

في بساطة الإيمان قبِل هؤلاء الرجال ما أُوحيَ إليهم في حلم، ولم يتشكّكوا في الطفل. بالإيمان تركوا طريقهم الذي قدموا منه، ليسيروا في طريق أخرى، حتى لا يلتقوا بهيرودس، مقدّمين للمؤمنين مثلاً حيًا للنفس عندما تلتقي بالسيّد المسيح، إذ لا تعود تسلك في طريقها القديم حيث هيرودس (إبليس) يملك. ويرى الأب غريغوريوس الكبير[94] إن هذا الطريق الجديد إنّما هو طريق الفردوس، الذي تلتزم النفس أن تسلكه خلال لقائها مع ربّنا يسوع. ويقول القدّيس أمبروسيوس: [لنرجع بعيدًا عن هيرودس صاحب السلطان الزمني إلى حين، فنأتي إلى المسكن الأبدي، إلى مدينتنا السمائيّة[95].]

في مرارة أقول إنه ليس شيء يحزن قلب الله مثل أن يرى منّا مجوسًا قد شاهدوا النجم السماوي، واستنار قلبهم وانطلقوا إلى حيث يوجد المخلّص، فانتزع عنهم كل تغرّب عن الله، وصاروا قريبين جدًا للآب، يحلّ فيهم ويجعلهم مقدّسا له بروحه القدّوس، لكنهم للأسف بعد أن قدّموا حياتهم هدايا ثمينة يفرح بها الرب، عادوا مرتدّين إلى طريق هيرودس، أيضًا إلى أعمال إنسانهم القديم وخضوعهم لإبليس، وكأنه - إن صح هذا التعبير - يسلّمون مسيحهم الداخلي لهيرودس، فيبيد منهم العدوّ ثمر نعمة الله السماويّة فيهم. في مرارة يوبّخهم الرسول بولس، قائلاً: "من خالف ناموس موسى، فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة، فكم عقابًا أشرّ تظنّون أنه يُحسب مستحقًا من داس ابن الله، وحَسِبَ دم العهد الذي قُدِّس به دنسًا، وازدرى بروح النعمة؟" (عب 10: 28-29). إذن ليتنا لا نرتدّ إلى طريق هيرودس المخادع، فلا نسلّم يسوعنا الداخلي في يديه فيصلب مرّة ثانية - إن صح التعبير - ويشهّر به بسببنا، وينطفئ الروح الذي فينا.

5. الهروب إلى مصر

"وبعدما انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم، قائلاً:

قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر،

وكن هناك حتى أقول لك،

لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه.

فقام وأخذ الصبي وأمه ليلاً وانصرف إلى مصر" [13-14].

يلاحظ القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن الملاك لم يقل عن القدّيسة مريم "امرأتك"، بل قال "أمه"، فإنه إذ تحقّق الميلاد وزال كل مجال للشك[96]. صارت القدّيسة منسوبة للسيّد المسيح لا ليوسف. لقد أراد الملاك تأكيد أن السيّد المسيح هو المركز الذي نُنسب إليه. يرى القدّيس أغسطينوس أن النفس التي ترتبط بالسيّد المسيح خلال الإيمان الحيّ العامل بالمحبّة تحمله فينا روحيًا، وكأنها قد صارت له كالقدّيسة مريم التي حملته روحيًا كما حملته بالجسد!

لماذا هرب السيّد المسيح إلى مصر؟

أولاً: الهروب إلى مصر يمثّل حلقة من حلقات الألم التي اجتازها القدّيس يوسف بفرحٍ، فإن كان الوحي قد شهد له بالبرّ، فإن حياة البرّ تمتزج بالآلام دون أن يفقد المؤمن سلامة الداخلي. يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على كلمات الملاك ليوسف، قائلاً: [لم يتعثّر يوسف عند سماعه هذا، ولا قال: هذا أمر صعب، ألم يقل لي إنه يخلّص شعبه، فكيف لا يقدر أن يخلّص نفسه، بل نلتزم بالهروب، ونقطع رحلة طويلة، ونقطن في بلد آخر؟ فإن هذا يناقض ما وعدت به! لم يقل شيئًا من هذا، لأنه رجل إيمان! بل ولا سأل عن موعد رجوعه، إذ لم يحدّده الملاك، بل قال له: "وكن هناك حتى أقول لك". لم يحزن بل كان خاضعًا ومطيعًا يحتمل هذه التجارب بفرح. هكذا يمزج الله الفرح بالتعب، وذلك مع كل الذين يتّقونه... مدبّرًا حياة الأبرار بمزج الواحدة بالأخرى. هذا ما يفعله الله هنا... فقد رأى يوسف العذراء حاملاً، فاضطرب وبدأ يشك... وفي الحال وقف به الملاك وبدّد شكّه ونزع عنه خوفه. وعندما عاين الطفل مولودًا امتلأ فرحًا عظيمًا، وتبع هذا الفرح ضيق شديد إذ اضطربت المدينة، وامتلأ الملك غضبًا يطلب الطفل. وجاء الفرح يتبع الاضطراب بظهور النجم وسجود الملوك. مرّة أخرى يلي هذا الفرح خطر وخوف لأن هيرودس يطلب حياة الطفل، والتزم يوسف أن يهرب إلى مدينة أخرى[97].]

هذه هي صورة الحياة التقويّة الحقيقية، هي مزيج مستمر من الضيقات مع الأفراح، يسمح بها الرب لأجل تزكيتنا ومساندتنا روحيًا، فبالضيق نتزكّى أمام الله، وبالفرح نمتلئ رجاءً في رعاية الله وعنايته المستمرّة.

ثانيًا: هروب السيّد المسيح من الشرّ أكّد حقيقة تجسّده، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لو أنه منذ طفولته المبكّرة أظهر عجائب لما حُسب إنسانًا[98].]





ثالثًا: هروبه كممثّل للبشريّة يقدّم لنا منهجًا روحيًا أساسه عدم مقاومة الشرّ بالشرّ، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن النار لا تطفأ بالنار بل بالماء. مصدر المقال: موقع الأنبا تكلاهيمانوت.

رابعًا: كانت مصر رائدة العالم الأممي، فكانت بفرعونها تُشير في العهد القديم إلى العبوديّة، بخصوبة أرضها تُشير إلى حياة الترف ومحبّة العالم. كان يمكن للسيّد أن يلتجئ إلى مدينة في اليهوديّة أو الجليل، لكنّه أراد تقدّيس أرض مصر، ليقيم في وسط الأرض الأمميّة مذبحًا له. في هذا يقول إشعياء النبي: "هوذا الرب راكب على سحابة خفيفة سريعة، وقادم إلى مصر، فترتجف أوثان مصر من وجهه، ويذوب قلب مصر داخلها... في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر، وعمود للرب عند تُخُمها، فيكون علامة وشهادة لرب الجنود في أرض مصر... فيُعرف الرب في مصر، ويَعرف المصريّون الرب في ذلك اليوم، ويقدّمون ذبيحة وتقدمة، وينذرون للرب نذرًا ويوفون به... مبارك شعبي مصر" (إش 19). اهتم الوحي بهذه الزيارة الفريدة، بها صارت مصر مركز إشعاع إيماني حيّ. وكما خزن يوسف في مصر الحنطة كسندٍ للعالم أثناء المجاعة سبع سنوات، هكذا قدّم السيّد المسيح فيض نعم في مصر لتكون سرّ بركة للعالم كله، ظهر ذلك بوضوح خلال عمل مدرسة الإسكندريّة وظهور الحركات الرهبانيّة والعمل الكرازي. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هلمّوا إلى برّيّة مصر لتروها أفضل من كل فردوس! ربوات من الطغمات الملائكيّة في شكل بشري، وشعوب من الشهداء، وجماعات من البتوليّين... لقد تهدّم طغيان الشيطان، وأشرق ملكوت المسيح ببهائه! مصر هذه أم الشعراء والحكماء والسحرة... حصّنت نفسها بالصليب! السماء بكل خوارس كواكبها ليست في بهاء برّيّة مصر الممتلئة من قلالي النُسّاك... على أيّ الأحوال، من يعترف بأن مصر القديمة هي التي بكل خوارس كواكبها حاربت ليست في بهاء برية مصر الممتلئة من قلالي النساك... على أي الأحوال، من يعترف بأن مصر القديمة هي التي حاربت الله في برود فعبدت القطط، وخافت البصل، وكانت ترتعب منه، مثل هذا يدرك قوّة المسيح حسنًا[99].]

يتحدّث أيضًا القدّيس يوحنا الذهبي الفم عن هذه الزيارة المباركة لمصر لتقديسها، فيقول: [إذ كانت مصر وبابل هما أكثر بلاد العالم ملتهبتين بنار الشرّ، أعلن الرب منذ البداية أنه يرغب في إصلاح المنطقتين لحسابه، ليأتي بهما إلى ما هو أفضل، وفي نفس الوقت تتمثل بهما كل الأرض، فتطلب عطاياه، لهذا أرسل للواحدة المجوس، والأخرى ذهب إليها بنفسه مع أمه.] كما يقول: [تأمّل أمرًا عجيبًا: فلسطين كانت تنتظره، مصر استقبلته وأنقذته من الغدر[100].]

6. قتل أطفال بيت لحم

"حينئذ لما رأى هيرودس أن المجوس سخروا به غضب جدًا،

فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها،

من ابن سنتين فما دون بحسب الزمان الذي تحقّقه من المجوس.

حينئذ تمّ ما قيل بإرميا النبي القائل:

صوتٌ سُمع في الرامة، نوح وبكاء وعويل كثير.

راحيل تبكي على أولادها، ولا تريد أن تتعزّى،

لأنهم ليسوا بموجودين" [16-18].

قتل أطفال بيت لحم لم يتم بمحض الصدفة، لكنّه يمثّل جزءً لا يتجزأ من حياة المخلّص، اهتم الوحي بإعلانه في العهدين القديم والجديد. لقد رأى إرميا النبي راحيل زوجة يعقوب المدفونة هناك تبكي على أولادها (أحفادها) من أجل قسوة قلب هيرودس عليهم.

ربّما يتساءل البعض: لماذا سمح ملك السلام أن تحدث هذه الكارثة بسبب ميلاده؟ في الوقت الذي فيه انطلقت الملائكة بالتسبيح تطوّب البشريّة لتمتّعها بالسلام السماوي، وجاء الغرباء يحملون الهدايا إلى طفل المزود، إذا بالأطفال العبرانيّين يُقتلون بلا ذنب. لقد قدّم هؤلاء الأطفال عملاً كرازيًا وشهادة حق أمام العالم كله، فإنهم يمثّلون كنيسة العهد الجديد التي حملت بساطة الروح كالأطفال، التي لا يطيقها هيرودس فيضطهدها، لكنّه لا يقدر أن يكتم صوت شهادتها، إذ انطلق الأطفال كأبكار لينعموا بالوحدة مع الحمل الإلهي أينما وُجد.

عبور أطفال بيت لحم إلى فوق يمثّلون كنيسة الأبكار كموكب روحي مقدّس يتقدّمهم المصلوب البكر، يرتفعون به ومعه خلال البذل الحق ليشاركوا السمائيّين ليتورجيّاتهم وتسابيحهم العلويّة الجديدة.

في اختصار أقول أن هذا الحدث بما فيه من نحيبٍ وعويلٍ مع مرارةٍ قاسيةٍ لا يمكن إنكارها، يحمل كشفًا عن كنيسة العهد الجديد ككنيسة بسيطة بلا تعقيد، تحمل الصليب كعلامة جوهريّة تمسّ طبيعتها، كنيسة أبكار، مرتفعة إلى فوق تمارس حياتها السماويّة خلال ثبوتها في الرأس السماوي المصلوب!

7. العودة إلى الناصرة

أوحي للقدّيس يوسف أن ينصرف إلى ناحية الجليل، فأتى وسكن في مدينة يُقال لها "ناصرة"، لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيّدعي ناصريًا.

يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذا الحدث بقوله: [عاد يوسف إلى الناصرة، لكي يتجنب الخطر من ناحية، ومن ناحية أخرى لكي يبتهج بالسكنى في موطنه[101].]

ذهابه إلى الناصرة، وهي بلد ليست بذي قيمة أراد به أن يحطّم ما اتسم به اليهود من افتخارهم بنسبهم إلى أسباط معيّنة، أو من بلاد ذات شهرة. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لأن الموضع كان قليل الأهمّية، بل بالأحرى ليس فقط الموضع وإنما كل منطقة الجليل. لهذا يقول الفرّيسيّون: "فتش وانظر، إنه لم يقم نبي من الجليل" (يو 7: 52). إنه لم يخجل من أن يُدعى أنه من هناك، ليظهر أنه ليس بمحتاج إلى الأمور الخاصة بالبشر، وقد اختار تلاميذه من الجليل... ليتنا لا نستكبر بسبب سموّ مولدنا أو غنانا، بل بالأحرى نزدري بمن يفعل هكذا. ليتنا لا نشمئز من الفقر، بل نطلب غنى الأعمال الصالحة. لنهرب من الفقر الذي يجعل الناس أشرارًا، هذا الذي يجعل من الغِنى فقرًا (لو 16: 24)، إذ يطلب متوسّلاً بلجاجة من أجل قطرة ماء فلا يجد[102].]

كلمة "ناصرة"، منها اشتقّت "نصارى" لقب المسيحيّين؛ وهي بالعبريّة Natzar وتعني غصن، ومنها الكلمة العربيّة "ناضر"، وقد سمّيَ السيّد المسيح في أكثر من نبوّة في العهد القديم بالغصن. فجاء في إشعياء النبي: "ويخرج قضيب من جذع يسّى، وينبت غصن من أصوله، ويحل عليه روح الرب روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوّة، روح المعرفة ومخافة الرب..." (إش 11: 1-2). وجاء في إرميا: "ها أيام تأتي يقول الرب، وأُقيم لداود غصن برّ، فيملك ملك، وينجح، ويُجري حقًا وعدلاً في الأرض" (راجع إر 33: 15) وفي زكريا: "هأنذا آتي بعبدي الغصن" (زك 3: Cool، "هوذا الرجل الغصن اسمه، ومن مكانه ينبت، ويبني هيكل الرب" (زك 6: 12)... هكذا كان اليهود يترقّبون في المسيّا أنه يُدعى "الغصن"... أي "ناصري".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مارينا
نائب مدير
مارينا


عدد المساهمات : 2066
نقاط : 5492
تاريخ التسجيل : 29/03/2011
العمر : 38

مقدمة عن تفسير انجيل متي  Empty
مُساهمةموضوع: تفسير الاصحاح الثالث   مقدمة عن تفسير انجيل متي  Icon_minitimeالثلاثاء مايو 10, 2011 8:58 pm

متى 3 - تفسير انجيل متى
حفل التتويج - عماد الملك


قبل أن يبدأ السيّد المسيح عمله بين شعبه كملك روحي كان يلزم إقامة حفل تدشين أو تتويج للملك الحقيقي عند نهر الأردن بعد أن هيّأ له سابق الملك ـ القدّيس يوحنا المعمدان ـ الذي تقدّم كملاك الرب يهيّئ له الطريق:

1. سابق الملك 1-6.

2. تهيئة الطريق 7-12.

3. عماد المسيح 13-17.

1. سابق الملك

كان من عادات الشرق أن يسبق الملك رسول يهيئ له الطريق، والسيّد المسيح كملكٍ روحيٍ أعد لنفسه رسولاً سبق فأنبأ عنه بإشعياء النبي: "صوت صارخ في البرّيّة، اعدّوا طريق الرب، قوِّموا في القفر سبيلاً لإلهنا" (إش 40: 3)، وبملاخي النبي: "هأنذا أُرسل إليكم إيليّا النبي قبل مجيء يوم الرب" (مل 4: 5).

يقول الإنجيلي: "في تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في بريّة اليهوديّة" [1]. لا يفهم من قوله: "في تلك الأيام" أنه بعد رجوع العائلة المقدّسة من مصر مباشرة، وإنما يقصد بها "في ذلك العصر" أو "في ذلك الزمان" وقد حدّد القدّيس لوقا عماد السيّد بنحو ثلاثين من عمره حسب الجسد (لو 3: 23)، وقد سبقه القدّيس يوحنا بأشهرٍ قليلة حينما بلغ الثلاثين من عمره، السن القانوني للخدمة الكهنوتيّة عند اليهود.

كان القدّيس يوحنا يكرز "في برّيّة اليهوديّة"، ولم تكن برّيّة قاحلة، إنّما كانت تضم ست مدن مع ضياعها (يش 15: 61-62)، لكنها منطقة غير مزدحمة ولا مُحاطة بالحقول والكروم كبقيّة البلاد.

لم يخدم القدّيس يوحنا ككاهنٍ في هيكل سليمان، لكنّه خرج إلى البرّيّة ليفضح ما وصلت إليه الطبيعة البشريّة، التي تخلّت عن عملها المقدّس كهيكل لله فصارت مملوءة جفافًا؛ صارت برّيّة قاحلة وقفرًا محتاجة إلى المسيّا الملك أن ينزل إليها ليرويها بمياه روحه القدّوس، فيجعلها فردوسًا تحمل ثمار الروح. يقول إشعياء النبي على لسان الطبيعة البشريّة المتعطّشة لعمل المسيّا الملك: "يسكب علينا روح من العلاء، فتصير البرّيّة بستانًا" (إش32: 15)، "تفرح البرّيّة والأرض اليابسة ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس، يزهر إزهارًا، ويبتهج ابتهاجًا ويُرَنِّم" (إش 35: 1-2). هكذا يقدّم القدّيس يوحنا البشريّة كقفرٍ للملك، فيحوّلها فردوسًا أبديًا، بل ويجعلها هيكله المقدّس. لقد حُرم يوحنا المعمدان من خدمة الهيكل الكهنوتية ليهيّئ الطريق لرئيس الكهنة الأعظم ربّنا يسوع، الذي يجعل من برّيتنا هيكلاً جديدًا سماويًا.

لعلّ داود النبي قد رأى بروح النبوّة هذا المنظر، فتهلّلت نفسه فيه، إذ قدّم لنا في ذات البرّيّة مزموره الثالث والستين، فيه يقول: "عطشت إليك نفسي، يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء... التصقت نفسي بك. يمينك تعضدني" (مز 63: 1، Cool. لقد رأى داود النبي جموع التائبين على يديّ يوحنا المعمدان في هذه البرّيّة، وقد التهبت قلوبهم بالعطش، وعطش جسده لمياه نعمته... فجاء السيّد لتلتصق هذه النفوس به، وتستند بقوّته بكونها يمين الرب.

ويرى القدّيس أمبروسيوس أن البرّيّة التي كرز فيها القدّيس يوحنا المعمدان هي الكنيسة التي قال عنها النبي إشعياء "لأن بنيّ المستوحشة أكثر من بنيّ ذات البعل" (إش 54: 1) فقد جاء كلمة الله حتى تثمر من كانت قبلاً مستوحشة وبرّيّة.

كيف هيّأ القدّيس يوحنا المعمدان الطريق الملوكي؟ بالمناداة بالتوبة، قائلاً: "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات" [2]. كان كأسد يزأر في البرّيّة، فخرجت إليه أورشليم وكل اليهوديّة وجميع الكورة المحيطة بالأردن [5]. كانت كلماته أصيلة، ينطق بكلمة الرب كما هي بلا تنميق بشري أو مداهنة أو تدليل، تنبع عن قلب أمين وصادق، يحيا بما ينطق به اللسان، فكان للكلمة فاعليّتها. حقًا إن سرّ جاذبيّة رسالة يوحنا هو اختفاؤه في كلمة الله، وإعلان رسالته خلال حياته العمليّة.

"التوبة" في اليونانيّة "ميتانية" وتعني تغيير الاتّجاه، فيعطي الإنسان لله الوجه لا القفا خلال اتّحاده بالمسيّا وذلك بعدما حوّل القفا لا الوجه نحو الله (إر 2: 27). لقد التقى شاول الطرسوسي بالآب خلال المسيّا القائم من الأموات، فتغيّر قلبه وفكره وكل اشتياقاته.

لقد "اقترب ملكوت السماوات"، فصار على الأبواب، إذ جاء السيّد المسيح ليسكن فينا، ولم يعد بعيدًا عنّا. وكما يقول الرسول بولس: "الكلمة قريبة منك، في فمك وفي قلبك" (رو 10: Cool. أمّا طريق التمتّع بهذا الملكوت فهو إدراكنا بالحاجة إلى عمل المسيّا فينا؛ فإذ يَدين الإنسان نفسه ينفتح القلب لاستقبال عمل المسيّا فيه. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [جاء يوحنا ليقودهم إلى التوبة لا لكي يُعاقَبوا، وإنما خلال التوبة يدينون أنفسهم مسرعين إلى نوال المغفرة... فإنهم ما لم يدينوا أنفسهم لا يقدرون أن يطلبوا نعمته، وبعدم طلبهم هذا لا يمكنهم نوال المغفرة[103].]

يقول القدّيس أمبروسيوس: [كثيرين يتطلّعون إلى يوحنا كرمز للناموس، بكونه يقدر أن ينتهر الخطيّة، لكنّه لا يقدر أن يغفرها[104].]

لقد وصف إشعياء النبي القدّيس يوحنا المعمدان، قائلاً: "صوت صارخ في البرّيّة، أعدّوا طريق الرب. اصنعوا سبله مستقيمة" [3]. إنه الصوت الذي يسبق "الكلمة الإلهي"، وكما يقول الآب غريغوريوس الكبير: [من حديثنا تعرفون أن "الصوت" يكون أولاً عندئذ تُسمع "الكلمة"، لهذا يُعلن يوحنا عن نفسه أنه "صوت"، إذ هو يسبق "الكلمة". فبمجيئه أمام الرب دُعى "صوتًا"، وبخدمته سمع الناس "كلمة الرب" إنه يصرخ معلنًا: "اصنعوا سُبله مستقيمة"... إن طريق الرب للقلب يكون مستقيمًا متى استقبل بتواضعٍ كلماته للحق، يكون مستقيمًا إن مارسنا حياتنا في توافق مع وصاياه. لذلك قيل: "إن أحبّني أحد يحفظ كلامي ويحبّه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23). أمّا من يرفع قلبه بالكبرياء، ومن يلتهب بحُمّى الطمع، ومن يلوث نفسه بدنّس الشهوة يغلق باب قلبه ضدّ مدخل الحق، ولئلا يقتني الرب المدخل فإنه يحكم الإغلاق بالعادات الشرّيرة[105].]

يكمّل معلّمنا لوقا البشير هذه النبوّة بقوله: "كل وادٍ يمتلئ، وكل جبل وأكمة ينخفض، وتصير المعوجّات مستقيمة، والشعاب طرقًا سهلة، ويبصر كل بشرٍ خلاص الله" (لو 3: 5-6). ما هذه الوديّان التي تمتلئ خلال التوبة إلا وديان الأمم المنسحقة والمعترفة بحاجتها للمخلّص، هذه التي تمتلئ بمياه الروح القدس الواهبة للحياة. وما هذه الجبال والأكَمَة التي تنخفض إلا كبرياء إسرائيل ويهوذا، فقد تشامخ اليهود وظنّوا أنهم أبرار. فقد جاء يوحنا ليحطّم هذا الكبرياء والتشامخ حتى يستقبل المتّواضعون خلاص الله، فيصلح حال النفوس المعوجّة، وتتغيّر طبيعتها التي كانت كالشعاب القاسية لتصير سهلة. بهذا فإن خلاص الله مقدّم لكل البشر، اليهود والأمم!

* ليُعدّ طريق الرب في قلوبنا، فإن قلب الإنسان هو عظيم ومتّسع، كما لو كان هو العالم. انظر إلى عظمته لا في كمّ جسداني، بل في قوّة الذهن التي تعطيه إمكانيّة أن يحتضن معرفة عظيمة جدًا للحق. إذن فليُعد طريق الرب في قلوبكم خلال حياة لائقة وبأعمال صالحة وكاملة، فيحفظ هذا الطريق حياتكم باستقامة، وتدخل كلمات الرب إليكم بلا عائق[106].

العلاّمة أوريجينوس

كانت صرخات يوحنا لا تخرج من فمه فحسب، وإنما تنطلق من كل حياته، تعلنها حياته الداخليّة ومظهره الخارجي، حتى ملبسه كان أشبه بعظة صامتة وفعّالة، وأيضًا طعامه. يقول الإنجيلي: "كان لباسه من وبَر الإبل وعلى حقويه منطقة من جلد، وكان طعامه جرادًا وعسلاً برّيًا" [4].

يندهش القدّيس يوحنا الذهبي الفم كيف يتحدّث الإنجيلي عن رسالة القدّيس يوحنا المعمدان التي تنبأ عنها إشعياء النبي ليعود فيتحدّث عن ملابسه وطعامه! لقد قدّم هذا المظهر ليتذكّر اليهود إيليّا النبي الغيور، فقد جاء كإيليّا يسبق الرب. بهذا المظهر أيضًا قدّم لنا درسًا في الحياة النسكيّة والبعد عن الحياة المدلّلة، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [ليتنا ننسى هذا النوع من الحياة المدلّلة والمخنّثة، فإنه لا يمكن أن تقوم الندامة مع الحياة المترفة في وقت واحد. ليعلِّمك يوحنا هذا الأمر بثوبه وطعامه مسكنه[107].]

لم يلبس يوحنا الملابس الطويلة كالفرّيسيّين، ولا الملابس الناعمة كحاشية الملك، وإنما ارتدى الملابس اللائقة بالدعوة للتوبة.

"واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم" [6].

إذ كان يوحنا يكرز بالتوبة كانت الجموع تأتي إليه تطلب العماد على يديه، معترفين بخطاياهم. لقد عرف اليهود أنواعًا من المعموديّات منها معموديّة المتهوّدين الدخلاء[108]. أمّا معموديّة يوحنا فجاءت رمزًا للمعموديّة المسيحيّة، جاء بها القدّيس يوحنا المعمدان ليهيّئ بها الطريق أمام معموديّة العهد الجديد. لم يكن لمعموديّة يوحنا أن تهب البنوّة لله، الأمر الذي انفردت به المعموديّة المسيحيّة لدخول السيّد المسيح "الابن الوحيد" إليها؛ ولم تكن تحمل في ذاتها القدرة على غفران الخطايا والتقدّيس، إنّما ما حملته من قوّة فقد استمدّته كرمز من قوّة المرموز إليه، كما حملت الحيّة النحاسيّة قوّة الشفاء خلال الصليب الذي ترمز إليه.

* كان يوحنا يعمدّ بالماء لا بالروح القدس، فبكونها عاجزة عن غفران الخطايا، تغسل أجساد من يعتمدون بالماء، أمّا نفوسهم فلا تقدر أن تغسلها. إذن لماذا كان يوحنا يعمّد؟... إنه في ميلاده كان سابقًا لمن يولد، وبالتعميد كان سابقًا للرب الذي يعمّد، وبكرازته صار سابقًا للمسيح![109]الأب غريغوريوس (الكبير)



* لنعالج باختصار الأنواع المختلفة للمعموديّة:

موسى كان يعمدّ لكن في الماء، في السحابة والبحر، لكنّه فعل هذا بطريقة رمزيّة.

يوحنا أيضًا عمّد، حقًا ليس بطقس اليهود، وليس فقط في الماء وإنما لمغفرة الخطايا، لكنها لم تكن بطريقة روحيّة كاملة، إذ لم يضف أنها "في الروح". مصدر المقال: موقع الأنبا تكلاهيمانوت.

يسوع عمّد ولكن في الروح، وهذا هو الكمال!

توجد أيضًا معموديّة رابعة، تتم بالاستشهاد والدم، الذي اعتمد بها المسيح نفسه والتي هي مكرّمة جدًا عن الباقين...

ومع ذلك توجد معموديّة خامسة وهي عاملة بالأكثر، معموديّة الدموع، حيث كان داود يُعوّم كل ليلة سريره ويغسل فراشه بدموعه (مز 6: 6)[110].

القدّيس غريغوريوس النزينزي

2. تهيئة الطريق

كان يوحنا يهيّئ الطريق للرب في القلوب، ليس بجمع الناس حوله ولحسابه، وإنما بالدخول بجماهير الشعب إلى حياة التوبة، معترفين بخطاياهم. وقد جاء الفرّيسيّون والصدّوقيّون إلى معموديّته بأجسادهم دون قلوبهم، لذا صار يوبّخهم هكذا: "يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي" [7]. لم يكن يوحنا بالقصبة التي تحرّكها الريح فيهتز أمام هؤلاء القادة متملقًا إيّاهم، وإنما بقوّة كان يشتهي خلاصهم، فاضحًا الشرّ الذي فيهم، بدعوتهم "أولاد الأفاعي".

اتفق القادة المتضادّون معًا ضدّ يوحنا كما اتفقوا معًا ضدّ المسيح نفسه، فقد كان الفرّيسيّون يمثّلون السلطة الكنيسة اليهوديّة والتقليد بطريقة حرفيّة قاتلة. وكان الصدّوقيّون يمثّلون الجانب المضاد للسلطة، ضدّ التقليد، ينكرون القيامة ولا يقبلون فكرة وجود الأرواح. كان الفرّيسيّون يتطلّعون إلى يوحنا أنه أكثر خطرًا من الصدّوقيّين في الثورة على السلطة، فقد خرجت الجماهير من كل المدن لترى مثالاً حيًا للحياة التائبة العمليّة، الأمر الذي يفضح الفرّيسيّين وكل رجال السلطة الدينيّة. أمّا الصدّوقيّون فإنهم مع مقاومتهم كانوا يرون في يوحنا من هو أخطر من رجال السلطة الدينيّة، فقد كسب الجماهير لصفّه، مقدّمًا لهم مفاهيم روحيّة تهدم أفكار الصدّوقيّين.

على أي الأحوال، وقف القدّيس يوحنا أمام الفرّيسيّين والصدّوقيّين بكل قوّة يوبّخهم، ملقّبًا إيّاهم: "يا أولاد الأفاعي". وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [حسنًا دعاهم أولاد الأفاعي، إذ يُقال أن ذلك الحيوان عند ولادته تأكل الصغار بطن أمها وتهلكها فيخرجون إلى النور، هكذا يفعل هذا النوع من الناس، إذ هم قتلة آباء وقتلة أمهات (1 تي 1: 9) يبيدون معلّميهم بأيديهم[111].]

يكمّل القدّيس يوحنا المعمدان حديثه مع الفرّيسيّين والصدّوقيّين، قائلاً: "فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة. ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبًا، لأني أقول لكم أن الله قادر أن يُقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم" [8-9].

إن كان اليهود عامة، وقادتهم الروحيّين بصفة خاصة، يتّكلون على نسبهم جسديًا لإبراهيم أب الآباء، فقد أوضح القديس يوحنا لهم بطلان هذه الحجّة. فإن كانوا يدعون أنهم "أبناء إبراهيم" ففي الحقيقة هم "أولاد الأفاعي"، لأنهم لا يحملون إيمان إبراهيم الحيّ ولا يسلكون على منواله، وإنما حملوا شرّ الأفاعي فيهم. فالإنسان حسب فكره وتصرفاته يظهر ابن من هو؟ فالسالكون بغير حكمة يدعون "أبناء الحماقة" (أي 30: Cool، والذين يسلكون في المعصية يحسبون "أبناء المعصية" (كو 3: 6)، ومن لا يبالي بهلاك نفسه يسمى "ابن الهلاك" (يو 17: 12)، وعلى العكس الذين يختبرون الحياة الجديدة المُقامة مع المسيح وفيه يعتبرون "أبناء القيامة" (لو 20: 36)، والذين يحبّون النور الإلهي، ويسعون نحوه فيدعون: "أبناء النور" (يو12: 36) و"أبناء النهار" (1 تس 5: 5) الخ.

إن كان هؤلاء القادة قد اعتمدوا على نسبهم لإبراهيم، فيلزمهم تأكيد هذه البنوّة بذات الروح الذي عمل به أبونا إبراهيم، وإلا فإن الله يُقيم له أولادًا من الحجارة، وقد أقام فعلاً. لقد أخرج الله من الأمم التي تحجّرت قلوبهم أبناء لإبراهيم خلال الإيمان بالسيّد المسيح، الذي رأى إبراهيم يومه فتهلّل (يو 8: 56).

يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن هذا التشبيه جاء عن ولادة هذا الشعب خلال اسحق الموهوب لإبراهيم خلال رحم سارّة العقيم كما لو كان متحجّرًا[112]. كان كالحجر في حالة موت غير قادر على الإنجاب، فأقام الله منه أولادًا لإبراهيم خلال قوّة وعده الإلهي وإيمان إبراهيم بالله القادر على الإقامة من الأموات. هذا ما قصده النبي عندما قال: "انظروا إلى الصخر الذي منه قُطعتم، وإلى نقرة الجب التي منها حُفِرتُم. انظروا إلى إبراهيم أبيكم، وإلى سارّة التي ولدتكم" (إش 51: 1-2). ها هو يذكرهم الآن بهذه البنوّة، فقد جعله الله أبًا لهم بطريقة معجزيّة كمن يُقيم من الحجارة أولادًا. الآن أيضًا يمكنه أن يفعل ذلك[113].

ويرى القدّيس أغسطينوس أن الحجارة التي صارت أولادًا لإبراهيم إنّما تُشير إلى الأمم الذين عبدوا الأوثان فصاروا حجارة، وإذ قبلوا الإيمان الذي كان لإبراهيم صاروا من نسله روحيًا. إنه يقول: [يُقصد بالحجارة كل الأمم ليس من أجل قدرتهم على الاحتمال كالحجر الذي رفضه البنّاءون، وإنما من أجل غباوتهم وبلادتهم الباطلة، فصاروا كالأشياء التي اعتادوا أن يعبدوها، إذ عبدوا الصور الجامدة صاروا هم أنفسهم بلا حس؛ "مثلها يكون صانعوها بل كل من يتّكل عليها" (مز 115: Cool. لكنهم إذ بدأوا يعبدون الله، ماذا سمعوا بخصوصهم؟ "لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين" (مت 5: 45) إذ يصير الإنسان مشابهًا لمن يعبده. إذن ماذا يقصد بالقول: "الله قادر أن يُقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم" (مت 3: 9)؟... أي نصير أولادًا لإبراهيم بامتثالنا بإيمانه وليس بميلادنا من جسده[114].] كما يقول: [كنّا في آبائنا حجارة إذ عبدنا الحجارة كآلهة، من هذه الحجارة يخلقنا الله عائلة لإبراهيم[115].]

ويقول القدّيس جيروم: [يستطيع الله أن يجعل من الحجارة أولادًا لإبراهيم؛ يُشير هنا إلى الأمم، إذ هم‎‎‎ حجارة بسبب قسوة قلوبهم. لنقرأ: "وأنزع قلب الحجر من لحمكمk وأعطيكم قلب لحم" (حز36: 26). فالحجر صورة القسوة، واللحم رمز اللطف. لقد أراد أن يظهر قوّة الله القادر أن يخلق من الحجارة الجامدة شعبًا مؤمنًا[116].]

"والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر.

فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تُقطع، وتُلقى في النار" [10].

ماذا يقصد بالفأس التي يضرب بها الشجر غير المثمر، أو الشجر الذي يحمل ثمارًا غير جيّدة إلا صليب ربّنا يسوع المسيح الذي يضرب أصل طبيعتنا الفاسدة ليهلك الإنسان القديم، مقيمًا الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه الذي يقدّم ثمر الروح القدس المفرح. إنه يدفن الإنسان العتيق في مياه المعموديّة كما في القبر مع السيد، أو يُلقي به كما في النار ليقدّم لنا خبرة الحياة. لهذا فلا عجب إن كمَّل النبي حديثه بخصوص المعموديّة المسيحيّة، بكونها طريق هدم الإنسان القديم وقيامة الإنسان الجديد، إذ يقول: "أنا أعمّدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي من هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه، هو سيعمّدكم بالروح القدس ونار" [11].

يقول القدّيس مار يعقوب السروجي: [المعموديّة هي الكور العظيم الممتلئ نارًا، فيها يُسبك الناس ليصيروا غير أموات[117].]

يقول القدّيس كبريانوس: [إنها المعموديّة التي فيها يموت الإنسان القديم، ويولد الإنسان الجديد كما يُعلن الرسول مؤكّدًا أنه خلصنا بغسل التجديد[118].]

يرى القدّيس يوحنا المعمدان أنه غير مستحق أن يحمل حذاء السيّد المسيح، وفي موضع آخر يُعلن أنه غير مستحق أن يحلّ سيور حذائه (يو 1: 27)، ماذا يعني بهذا؟ إن كان كلمة الله غير المُدرَك قد صار كمن يلبس حذاء بتجسّده، إذ صار كواحدٍ منّا يسير بيننا، فإن القدّيس يوحنا يُعلن أنه غير مستحق أن يحمل هذا السرّ الفائق الذي للتجسّد، ولا أن يحلّ أختامه (سيوره) إذ لا يمكن التعبير عنه.

يقول الأب غريغوريوس (الكبير): [من لا يعرف أن الحذاء يُصنع من جلد الحيوانات الميّتة؟! إذ صار الرب متجسّدًا، يظهر بين الناس كمن هو محتذي، إذ لبس لاهوته غطاءً قابلاً للموت لذلك يقول النبي: "على أدوم أطرح نعلي" (مز 60: Cool. لقد أُشير للأمم بأدوم... خلال الجسد صار معروفًا لدى الأمم، كما لو أن اللاهوت قد جاء إلينا بقدم محتذي. لكن لا يمكن للعين البشريّة أن تخترق سرّ التجسّد. فإنه ليس من طريق به يتحقّق إدراك كيف صار الكلمة متجسّدًا، وكيف انتعش الروح العلوي واهب الحياة داخل أحشاء أم، وكيف حُبل بذاك الذي بلا بداية وصار إلى الوجود. إذن فسيور الحذاء إنّما هي أختام السرّ. لم يكن يوحنا مستحقًا أن يحلّ حذاءه إذ كان عاجزًا عن البحث في سرّ تجسّده... إني أعرف أنه وُلد بعدي، لكنّني أعجز عن فهم سرّ هذا المولود. انظر! فإن يوحنا الممتلئ بالروح - روح النبوّة - والمستنير بالمعرفة يُعلن أنه لا يعرف شيئًا بخصوص هذا السر[119].]

سر نجاح القدّيس يوحنا المعمدان هو تواضعه؛ فبقوله إنه غير مستحق أن يحلّ سيور حذاءه يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم كأنما يقول: [إنه عالٍٍ عليِّ جدًا، ولا استحق أن أُحسب أقل عبد عنده، فإنّ حلّ سيور الحذاء هي أكثر الأعمال وضاعة[120].]

بعد أن طالبهم بالتوبة العمليّة الحاملة للثمر الروحي، مقدّمًا لهم المعموديّة كسِّر صلب إنسانهم العتيق والتمتّع بالحياة الجديدة، متّحدثًا في تواضع أنه غير مستحق إدراك أسرار الحمل الفائق، أوضح مجيء هذا الحمل كديّان: "الذي رَفْشه في يده، وسينقّي بيْدره، ويجمع قمحه إلى المخزن، وأما التبن فيحرقه بنار لا تُطفأ" [12].

هكذا يقدّم لهم القدّيس يوحنا المعمدان السيّد المسيح كديّان، فإن كان بلطفه يترك الحنطة مع التبن إنّما إلى حين، وسيأتي الوقت حتمًا ليذَرّي الحصاد، ويفصل القمح إلى المخزن، والتبن إلى النار. الآن يعيش الأبرار مع الأشرار، والمؤمنون مع غير المؤمنين، حتى يأتي يوم الرب العظيم الذي يقوم بنفسه بالتذرية. يمسك رفشه في يده ولا يسلّمه لآخر، فإنه وحده العارف القلوب والقادر أن يفصل الحنطة من التبن بحكمة دون أن يخطئ.

يطمئننا القدّيس أغسطينوس أنه وإن وُجدت الحنطة مختلطة بالتبن هنا، لكن هذا لن يؤذي الحنطة ولا يفقدها إكليلها، فسيأتي الوقت لعزلها عن التبن حيث يحرق التبن في النار: [هذا التبن لا يُهلك من هم حنطة الرب، والذين هم قليلون إن قورنوا بالآخرين، لكنهم هم جمع عظيم. لا يهلك مختارو الله الذين يُجمعون من أقاصي العالم، من أربعة رياح، من أقصى السماء إلى أقصاها (مت 24: 31). ويصرخ المختارون قائلين: "خلِّص يا رب، لأنه قد انقرض التقي، لأنه قد انقطع الأمناء من بني البشر" (مز 12: 1). فيقول لهم الرب: "من يصبر إلى المنتهى (حيث يُقيد الشرّ) فهذا يخلُص" (مت24: 13)[121].]

3. عماد المسيح

"حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه.

ولكن يوحنا منعه قائلاً:

أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ.

فأجاب يسوع وقال له: اسمح الآن، لأنه هكذا يليق بنا أن نكمِّل كل برّ.

حينئذ سمح له.

فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء.

وإذ السماوات قد انفتحت له،

فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وآتيًا عليه.

وصوت من السماوات، قائلاً:

هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" [13-17].

تحتفل الكنيسة بعيد عماد المسيح بكونه عيد الظهور الإلهي، حيث أعلن الثالوث القدّوس ذاته فيه. فإن كان عند نهر الأردن جاء كثيرون معترفين بخطاياهم، فإنه بدخول السيّد إلى المياه انكشفت حقيقته أنه أحد الثالوث القدّوس. دخل بين الخطاة لينكشف، فندرك أسراره، لا لمجرّد المعرفة العقليّة، وإنما لنختبر عمله الفائق فينا.


يتحدّث القدّيس أغسطينوس عن ظهور الثالوث القدّوس في العماد، قائلاً: [بجوار نهر الأردن ننظر ونتأمّل كما في منظر إلهي موضوع أمامنا. لقد أعلن لنا إلهنا نفسه بكونه الثالوث. جاء يسوع اعتمد بواسطة يوحنا، الرب بواسطة العبد، مثالاً للتواضع. أظهر لنا في تواضع أن المحبّة قد كملت. وعندما قال له يوحنا: "أنا محتاج أن اعتمد منك، وأنت تأتي إليّ. أجاب: اسمح الآن، لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل برّ" [14-15].

عندما انفتحت السماوات ونزل الروح القدس في شكل حمامة، تبعه صوت من السماء، قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" [17]. إذن هنا أمامنا الثالوث متمايزًا، الواحد عن الآخر: الآب في الصوت، الابن في الإنسان، والروح القدس في شكل حمامة. إنهم الله الواحد، ومع ذلك فإن الابن غير الآب، والآب غير الابن، والروح القدس ليس بالآب ولا بالابن. نحن نعلم أن هذا الثالوث الذي لا يُنطق به، يسكن في ذاته، يجدّد الكل، يخلق، يدعو، يدين ويخلّص، هذا الثالوث هو كما نعلم لا يُنطق به وغير منفصل[122].

نستطيع أن ندرك مدى اهتمام الكنيسة بالمعموديّة من كلمات القدّيس جيروم: [لم يكرز المخلّص نفسه بملكوت السماوات إلاّ بعد تقديسه الأردن بتغطيسه في العماد[123].]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مارينا
نائب مدير
مارينا


عدد المساهمات : 2066
نقاط : 5492
تاريخ التسجيل : 29/03/2011
العمر : 38

مقدمة عن تفسير انجيل متي  Empty
مُساهمةموضوع: تفسير الاصحاح الرابع   مقدمة عن تفسير انجيل متي  Icon_minitimeالثلاثاء مايو 10, 2011 8:59 pm

متى 4 - تفسير انجيل متى
انتصار الملك


إذ تُوّج الملك كان لابد أن يقدّم لشعبه شيئًا يليق بعمله الملوكي، لهذا دخل في معركة علانيّة ضدّ الشيطان لحساب شعبه ليهبهم النصرة؛ ينزعهم عن مملكة إبليس ويقيمهم ملكوتًا له. دخل السيّد هذه المعركة لحساب شعبه حتى كل غلبة له إنّما تقدّم لحسابهم.

1. التجربة 1-11.

2. انصرافه إلى الجليل 12-17.

3. دعوة التلاميذ 18-22.

4. الكرازة والعمل 23-25.

1. التجربة

إذ تحتل تجربة السيّد المسيح دورًا رئيسيًا في خلاصنا بكونها جزءً لا يتجزأ من عمله الإلهي الخلاصي، تحدّث عنها الإنجيلي في شيء من التفصيل موضّحًا موعد التجربة، ودور الروح القدس فيها، وموضع التجربة، ومن هو المُجرّب، وارتباط التجربة بالصوم، وأنواع التجارب الثلاث: كيف تهاجم، وكيفيّة الغلبة، وثمار التجربة.

أولاً: موعد التجربة

"ثم أُصعد يسوع إلى البرّيّة من الروح،

ليجرّب من إبليس" [1].

يبدأ الإنجيلي حديثه عن التجربة بكلمة "ثم"، وكأن التجربة أمر طبيعي كان لزامًا للسيّد الذي قبل أن يدخل إلى مياه المعموديّة نيابة عنّا، فاتحًا لنا طريق الملكوت، واهبًا إيّانا حق البنوّة للآب فيه، أن يدخل في صراعٍ مفتوحٍ مع إبليس رئيس مملكة الظلمة. وكأن ملكوت السماوات الذي قدّمه لنا المسيّا لنا الملك قد كلّفه الكثير، فلم يقف الأمر عند تجسّده ودخوله مياه المعموديّة، وإنما دخل معركة طويلة ظهرت إحدى صورها في التجربة على الجبل، وتلألأت في كمالها على الصليب. ونحن أيضًا إذ ندخل المعموديّة، ونلبس المسيح نلتزم بالدخول في المعركة التي تثيرها الظلمة، فوراء كل نعمة إلهيّة حرب روحيّة. أو كما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم حيثما وُجد المسيح لابد من معركة روحيّة. لقد فتح لنا السيّد بنفسه طريق التجربة، قائلاً: "قد دُستُ المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد" (إش 63: 3)، حتى يشتهي كل منّا أن يصعد بقيادة الروح القدس أرض المعركة وحده، ليس من أبٍ يسند أو أمٍ، إنّما يحمل فيه السيّد المسيح الغالب، الذي وحده يقدر أن يحارب بنا وعنّا لحساب مملكته فينا.

رأى الرسول بولس في السيّد مثالاً حيًا لكل نفس تدخل برّيّة التجارب، لكنّه ليس مثالاً خارجيًا بعيدًا عنّا نتمثل به، إنّما هو المثل الحيّ الذي يفيض علينا بإمكانيّات النصرة، فتُحسب إمكانيّاته إمكانيّاتنا، إذ يقول: "من ثَمّ كان ينبغي أن يشبه إخوته في كل شيء، لكي يكون رحيمًا، ورئيس كهنة أمينًا في ما لله حتى يكفر عن خطايا الشعب، لأنه في ما هو قد تألّم مُجرَّبًا يقدر أن يعيّن المجرّبين" (عب 2: 17-18). أمّا سرّ نصرة السيّد فهي أنه دخل المعركة دون أن يُوجد لإبليس موضعًا فيه، فلا يقدر أن يدخل فيه أو يغتصب ما له، إذ يقول السيد: "رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيّ شيء" (يو 14: 30)، ويقول الرسول بولس: "مجرب في كل شيء مثلنا بلا خطيّة" (عب 4: 15).

* أعطانا الرب بمثاله كيف نستطيع أن ننتصر كما انتصر هو حين جُرِّب[124].

الأب سرابيون

* إذ هو شفيعنا يساعدنا أن نغلب في التجربة وقد صار مثالاً لنا.

* يسوع قائدنا سمح لنفسه بالتجربة حتى يُعلِّم أولاده كيف يحاربون[125].

القدّيس أغسطينوس

* حقًا كان لائقًا بذاك الذي جاء ليحل موتنا بموته، أن يغلب أيضًا تجاربنا بتجاربه[126].

الأب غريغوريوس (الكبير)

ثانيًا: دور الروح القدس

يقول الإنجيلي: "أُصعد يسوع إلى البرّيّة من الروح" [1]. كأن الروح القدس هو الذي اقتاده إلى المعركة، ليس اعتباطًا، وإنما لتحقيق الخطة الإلهيّة، التي هي موضوع سرور الآب والابن أيضًا. إنه لم يصعد كمن يُقتاد لاإراديًا، فإن الروح القدس إنّما هو روح القدّوس، واحد معه في الجوهر، فما يفعله إنّما يحقّق إرادة الروح التي هي واحدة مع إرادة الآب وإرادة الابن.

* لم يُصعد (إلى البرّيّة) كمن هو مُلزم أو من هو أسير إنّما أُقتيد باشتياق إلى المعركة.

القدّيس جيروم.

* ذهب الشيطان إلى الإنسان (آدم) ليجرّبه، لكن إذ لا يستطيع الشيطان أن يهاجم المسيح، بل ذهب المسيح إليه.

القدّيس يوحنا الذهبي الفم

إن كان الحب الإلهي قد دفع السيّد المسيح إلى الدخول إلى معركة ضدّ إبليس من أجلنا ولحسابنا، هكذا يلهب الروح القدس قلب المؤمن، ليس فقط أن يحتمل التجربة بفرحٍ مجاهدًا بالسيّد المسيح الساكن فيه، وإنما أيضًا ينحني بالحب ليحسب تجارب إخوته تجاربه، وقيودهم قيوده، يئن لسقطاتهم ويتألّم من أجل كل نفسٍ متهاونة في طريق خلاصها. وبعدها كانت التجارب علامة غضب الله صارت هبة يسمح الله بها لأولاده لكي يحملوا نصرة المسيح نفسه فيهم.

* تُوجَّه تجارب الشيطان بالأكثر ضدّ الذين تقدّسوا، لأنه يشتاق بالأكثر أن ينال نصرة على الأبرار[127].

القدّيس هيلاري أسقف بواتييه

* ليس المسيح وحده هو الذي أُصعد بالروح إلى البرّيّة، وإنما كل أولاد الله الذين فيهم الروح القدس. فإنهم لا يقتنعون ببقائهم كسالى، إنّما يحثّهم الروح القدس أن يقوموا بعملٍ عظيمٍ، فيخرجون إلى البرّيّة كمن يصارعون إبليس حيث توجد أعمال ظلم يثيرها الشيطان. لأن كل الصالحين هم خارج العالم والجسد، ليست لهم إرادة العالم ولا إرادة الجسد، يخرجون إلى البرّيّة هكذا ليجرّبوا.

القدّيس يوحنا الذهبي الفم

لا ينزع الله التجارب، بل يسمح لنا بها، ويقدّم لنا القدّيس يوحنا الذهبي الفم الأسباب لذلك:

أولاً: ليعلمك أنك قد صرت أكثر قوّة.

ثانيًا: لكي تستمر متواضعًا، فلا تنتفخ بعظمة مواهبك، إذ تضغط التجارب عليك.

ثالثاً: لكي يتأكّد الشيطان الشرّير الذي قد يشك للحظة أنك قد تركته، فبمَحَكْ التجارب يتأكّد أنك تركته تمامًا وقد أفلتّ من بين يديه.

رابعًا: بها تصير أكثر قوّة وصلابة من الصلب نفسه.

خامسًا: لكي تحصل على دليل واضح للكنوز المعهود بها إليك. فإن الشيطان لا يريد محاربتك ما لم يراك في كرامة أعظم. على سبيل المثال في البداية هاجم آدم، لأنه رآه يتمتّع بكرامة عظيمة. ولهذا السبب أيضًا هيّأ الشيطان نفسه للمعركة ضدّ أيوب لأنه رآه مكلّلاً، يزكّيه الجميع[128].

ويقدّم الأب تادرس عدة أسباب لسماح الله لنا بالتجارب، منها تزكيتنا أو إصلاحنا، أو بسبب خطيّة ارتكبناها، أو لإظهار مجد الله أو علامة عقاب إلهي:

[أ. من أجل اختبارهم، كما نقرأ عن الطوباويّين إبراهيم وأيوب وكثير من القدّيسين الذين تحمّلوا تجارب بلا حصر...

ب. من أجل الإصلاح، وذلك عندما يؤدب (الله) أبراره من أجل خطاياهم البسيطة (اللاإرادية) والهفوات، ولكي يسمو بهم إلى حال أعظم من النقاء. وذلك كالقول "يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تخُرْ إذا وبّخك، لأن الذي يحبّه الرب يؤدّبه ويجلد كل ابن يقبله... فأي ابن لا يؤدّبه أبوه؟ ولكن إن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه، فأنتم نغول لا بنون" (عب 12: 5-Cool.

ج. كعقاب من أجل الخطيّة وذلك كما هدّد الله بأن يرسل أوبئة على بني إسرائيل (لشرّهم): "أرسل فيهم أنياب الوحوش مع حُمَةِ زواحف الأرض" (تث 32: 24).

د. بالحقيقة أيضًا نجد سببًا رابعًا ذكره الكتاب المقدّس، وهو أن الأتعاب تُجلَب علينا ببساطة من أجل إظهار مجد الله وأعماله، وذلك كقول الإنجيلي: "لا هذا أخطأ ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه" (يو 9: 3)، وأيضًا: "هذا المرض ليس للموت، بل لأجل مجد الله ليتمجّد ابن الله به" (يو 11: 4).

هـ. وهناك أنواع أخرى للنقمات التي يبُتلى بها الذي يغفلون رباطات الشرّ في حياتهم، إذ نقرأ عن داثان وأبيرام وقورح الذين عوقبوا، وعن الذين قال عنهم الرسول: "أسلمهم الله إلى أهواء الهوان... وإلى ذهن مرفوض" (رو 1: 26، 28). وهذه تعتبر أمر العقوبات... لأنهم صاروا غير مستأهلين لأن يشفوا بالافتقاد الإلهي واهب الحياة[129].]

نستطيع أن نضيف إلى التعليلات السابقة أمرًا هامًا في حياة المؤمن، ألا وهو أن التجربة هي المناخ المناسب لتجلّي المسيّا المصلوب في حياة المؤمن. ففي بدء التجربة كان الشيطان متشكّكا في شخص ربّنا يسوع، فكان دائم السؤال: "إن كنت ابن الله... "، لكن إذ غلب السيّد جاءت الملائكة تخدمه، وطُرد إبليس من وجهه إلى حين، فأدرك أنه المسيّا لا بالكلام وإنما خلال العمل. هكذا بقدر ما ندخل في صراع مع عدوّ الخير ينكشف المسيّا الذي في داخلنا، ويُعلن ملكوته فينا، حيث تقوم ملائكة بخدمتنا وينفضح ضعف الشيطان أمامنا، بل أمام السيّد المسيح العامل فينا. حقًا إن ما يقتنيه المسيحي الحكيم من بركات في تجربة ما لا توازيها ما يناله بسبب العبادة لسنوات طويلة في فترات الراحة! الصليب هو مجال ظهور المسيّا المصلوب في عروسه المقدّسة!

ثالثًا: موضع التجربة

اختار السيّد المسيح "البرّيّة" لتكون مكان التجربة، أو بمعنى آخر ميدان المعركة بينه وبين إبليس بطريقة علنية. اختيار هذا المكان يقدّم لنا مفاهيم روحيّة تمسّ حياتنا مع الله، منها:

أ. بحسب التقليد اليهودي يُنظر إلى الشيطان والأرواح الشرّيرة أنها تأوي إلى البراري والأماكن الخربة والقبور الخ. وكأن السيّد أراد أن يدخل بنفسه إلى المعركة مع إبليس في أرضه، أي كمن هو في عرين الأسد. لقد رأينا في حديثنا عن القدّيس يوحنا المعمدان في الأصحاح السابق أنه انطلق يكرز في "برّيّة اليهوديّة"، مقدّمًا للمسيّا الملك الطبيعة البشريّة كبرّيّة قاحلة لكي يحولها إلى فردوس بمياه روحه القدّوس. أستطيع بهذا أن أقول إن أرض المعركة في الواقع هي "برّيّة الطبيعة البشريّة" التي صارت قاحلة ومسكنًا للشيّاطين، دخل إليها السيّد لكي يغتصبها ممن قد ملك عليها ليقيم مملكته فيها. بهذا يدرك كل خاطئ أن المعركة الروحيّة ليست معركته، إنّما هي معركة الله مع الشيطان، وأما هو فمجرد أرض المعركة وميدانها، إن اختفى وراء المسيّا فسيغلب به!

ب. لقد أُصعد السيّد إلى البرّيّة ليجرّب، معلنًا أنه حيث يكون الشخص في عزلة، أي في البرّيّة تتجرّأ عليه الشيّاطين لمحاربته. لكن السيّد لم يكن في عزلة داخليّة، إذ لم ينفصل قط عن أبيه وروحه القدّوس ولا اعتزل البشريّة بل كانت في قلبه. بمعنى آخر، كان في عُزلة حسب الجسد في الظاهر لا في الداخل، لهذا لم يكن للعدو مكان فيه، وهكذا فإنّنا نحن إن صرنا في عزلة من الله والناس يجد الشيطان له فينا مكانًا... أقصد العزلة الداخليّة، أي فقدان الحب لله والعضويّة الكنسيّة الروحيّة، إنه ينفرد بنا ويغلبنا، أمّا إن كنّا في وحدة الحب مع الله والناس، فحتى وإن كنّا في عزلة ظاهرة فإنّنا نغلبه.

يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [انظر أين يصعده الروح عندما أخذه لا إلى مدينة ولا إلى مسرح عام، بل إلى برية. بهذا كان يجتذب الشيطان معطيًا إيّاه فرصة ليس فقط بجوعه وإنما خلال الموضع أيضًا. وعندئذ، على وجه الخصوص، يحارب الشيطان عندما يرى الناس متروكين وحدهم بمفردهم. هكذا فعل أيضًا مع المرأة (حواء) في البداية عندما اصطادها وحدها، إذ وجدها بعيدة عن زوجها. فإنه عندما يرانا مع الآخرين، متّحدين معًا لا تكون فيه الثقة الكافية لمهاجمتنا. إننا في حاجة عظيمة أن نجتمع معًا باستمرار حتى لا نتعرّض لهجمات الشيطان[130].]

العزلة هنا لا تعني مجرّد انفصالنا عن الآخرين جسديًا، إنّما هي عزلة القلب المملوء أنانيّة، الذي لا يقدر أن يحمل آخرين في داخله؛ يطلب ما هو لذاته لا ما للغير، وكما يقول الحكيم: "المعتزل يطلب شهوته" (أم 18: 1). وعندما وبّخ الله إسرائيل على شرّه قال: "صعدوا إلى أشور مثل حمار وحشي معتزل بنفسه" (هو 8: 9). ويصف القدّيس يهوذا الهراطقة بأنهم "معتزلون بأنفسهم نفسانيّون لا روح لهم" (يه 19).


رابعًا: من هو المجرّب؟

بعدما أكّد الإنجيلي أن الروح هو الذي أصعد السيّد إلى البرّيّة ليُجرّب أوضح أن المجرّب هو "إبليس" نفسه. يسمى في اليونانيّة "ديافولوس" أي المُشتكي، لا عمل له إلا أن يشتكي علينا، ليصدّ مراحم الله عنّا. وقد دُعي أيضًا بالشيطان أي المقاوم، فهو خصم لا يتوقّف عن مقاومتنا، وكما يقول الرسول: "إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو" (1 بط 5: Cool.

يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لقد يئس الشيطان عندما رأى المسيح صائمًا أربعين يومًا، لكنّه إذ أدرك أنه جاع بعد ذلك استعاد رجاءه "فتقدّم إليه المجرِّب" [3]... وأنت إن صُمت وعانيت من تجربة، فلا تقل في نفسك لقد فقدت ثمرة صومي. فإنك إن صمت ودخلت في تجربة، فلتنل النصرة على التجربة[131].]

خامسًا: ارتباط الصوم بالتجربة

بدأت الحرب مع بدء الصوم الأربعيني كقول الإنجيلي لوقا: "كان يُقتاد بالروح في البرّيّة أربعين يومًا يُجَرَّب من إبليس" (لو 4: 1-2). وقد اشتدّت عندما جاع، فكان الجوع بمثابة استدراج الشيطان لمنازلته، وفي نفس الوقت كان الصوم هو السلاح الذي يقدّمه السيّد لمؤمنيه لكي يتذرّعوا به أثناء الحرب الروحيّة ممتزجًا بالصلاة. لم يكن السيّد محتاجًا للصوم، إذ لم يكن يوجد فيه موضع للخطيّة، إنّما صام ليقدّس أصوامنا بصومه، مشجعًا إيّانا عليه كالأم التي تتذوّق الدواء أمام طفلها المريض حتى يشرب منه.

* في جوعه (المسيح) اقترب إليه؛ ليعلّمك ما هي عظمة الصوم، وكيف أنه أقوى درع ضدّ الشيطان. لهذا يلزم بعد الجرن (جرن المعموديّة) أن يصعدوا لا إلى حياة الترف والشرب والمائدة الممتلئة، بل إلى الصوم. لقد صام لا عن احتياج وإنما لتعليمنا... فإنه بدون ضبط البطن طُرد آدم من الفردوس، وحدث الطوفان في أيام نوح وحلّت الرعود بسدوم. فمع ارتكابهم الزنا جاء التحذير يخصّ ضبط البطن. هذا ما عناه حزقيال بقوله: "هذا كان إثم سدوم الكبرياء والشبع من الخبز ووفرة الترف" (حز 16: 49). هكذا تعمق اليهود أيضًا في الشرّ العظيم بانسحابهم إلى المعصية خلال شربهم وترفهم (إش 5: 11ـ12)[132].

القدّيس يوحنا الذهبي الفم

* عندما يوجد صراع متزايد من المجرّب يلزمنا أن نصوم، حتى يقوم الجسد بالواجب المسيحي في حربه ضدّ (شهوات) العالم، بالتوبة وحث النفس على النصرة في تواضع!

القدّيس أغسطينوس

ويقول الآب هيلاري أسقف بواتييه: [جاع بعد أربعين يومًا... لا بمعنى أنه هُزم من أثر الزهد، وإنما خضوعًا لقانون ناسوته.]

لقد صام السيّد أربعين يومًا، والكنيسة أيضًا تقدّس هذا الصوم الأربعينيّ بكونه قد تقدّس بالسيّد نفسه، وتُقدّم موضوع "التجربة" في بداية قراءات الصوم لتُعلن لأولادها أنه حيث يوجد جهاد تقوم الحرب، وحيث توجد الحرب يلزم الجهاد الروحي بالصوم والصلاة.

لماذا جاع السيّد في نهاية الأربعين يومًا؟ تأكيدًا لناسوته، فلو أنه صام أكثر من موسى (خر 24: 18) وإيليّا (1 مل 19: Cool لحسبوه خيالاً، لا يحمل جسدًا حقيقيًا مثلنا. وقد جاع لكي يعطي الفرصة لتجديد الحرب مع الشيطان، إذ يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [يئس إبليس عندما رأى المسيح صائمًا أربعين يومًا، لكنّه إذ رآه جائعًا بدأ الأمل يدب فيه من جديد، وعندئذ تقدّم إليه المجرّب.]

أما رقم 40 فيحمل معنى رمزيًا، فيرى القدّيس أغسطينوس[133]أن رقم 40 يحوى رقم "عشرة" أربع مرّات، ولما كان رقم 10 يُشير إلى كمال تطويبنا أو إلى المعرفة و"أربعة" تُشير إلى الزمن، فإن رقم 40 يُشير إلى كمال زماننا في حياة مطوّبة أو في حياة مملوءة معرفة.

رقم 4 يُشير إلى الزمن لأن دوران السنة يحوي أربعة فصول زمنيّة (صيف وشتاء وخريف وربيع)، ودوران اليوم يحوي أربع فترات زمنيّة (باكر والظهيرة وعشية والليل).

رقم 10 يُشير إلى كمال المعرفة والتطويب لأنه يضم معرفة الخالق (3) أي الثالوث القدّوس بجانب خلقه الإنسان (رقم 7= النفس على مثال الثالوث + الجسد من العالم: أربعة أركان العالم).

10 (كمال المعرفة) = 3 (معرفة الله) + 7 (معرفة الإنسان الكاملة).

هذا وصوم السيّد المسيح أربعين يومًا يُشير إلى التزامنا بالزهد كل أيام غربتنا، لكي نحيا في حياة مطوّبة كاملة، وتكون لنا معرفة صادقة من نحو الله وخليقته.

ويقدّم لنا الآب غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا آخر لرقم 40، إذ يقول: [هذا الجسد المائت يتكوّن من أربعة عناصر، ولما كنّا خلال هذا الجسد عينه نخضع لوصايا الله ووصايا الناموس التي أعطيت لنا خلال الوصايا العشرة، فإنّنا خلال شهوات الجسد احتقرنا الوصايا العشرة، فمن العدل أن نؤدب ذات الجسد أربع مرّات عشر مرّات[134].]

سادسًا: التجربة الأولى أي تجربة الخبز

"فتقدّم إليه المجرِّب وقال له:

إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا.

فأجاب وقال: مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان،

بل بكل كلمة تخرج من فم الله" [3-4].

لعلّ الشيطان قد صار في حيرة إذ رأى ذاك الذي قال عنه الآب السماوي: "هذا هو ابني الحبيب" أثناء العماد، يجوع! فتشكّك في أمره، لهذا في كل تجربة كان يودّ أن يتأكّد من بنوّته لله، قائلاً: "إن كنت ابن الله" وكما يقول القدّيس جيروم: [يقصد إبليس بكل هذه التجارب أن يعرف إن كان هو بحق ابن الله، ولكن المخلّص كان مدققًا في إجابته، تاركًا إيّاه في شك[135].] ولعلّه أراد أن يستخدم ذات السلاح الذي يهاجم به البشريّة، سلاح التشكيك في أُبوّة الله لنا ورعايته وعنايته بنا... أمّا سلاح السيّد المضاد فهو كلمة الله. إذ كان في كل تجربة يستند على الكلمة الإلهيّة المكتوبة بقوله: "مكتوب..."، وهو بهذا يحملنا إليه ككلمة الله المتجسّد لنختفي فيه، ونتمسّك بالكلمة المكتوبة التي بها ندين الشيطان نفسه، كقول الرسول: "ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة؟" (1 كو 6: 3)

كانت التجربة الأولى هي تجربة الخبز، أو تجربة البطن، لكن النفس الشبعانة تدوس العسل، فلا يستطيع العدوّ أن يجد له في داخلنا موضعًا مادامت نفوسنا ممتلئة بالسيّد نفسه، في حالة شبع بل وفيض. إذ بهذا ندخل إلى شبه الحياة الملائكيّة فلا يكون للبطن السيادة علينا!

* الإنسان الأول إذ أطاع بطنه لا الله، طُرد من الفردوس إلى وادي الدموع.

القدّيس جيروم[136]

* كما أن القيامة تقدّم لنا حياة تتساوى مع الملائكة، ومع الملائكة لا يوجد طعام، فإن هذا يكفي للاعتقاد بأن الإنسان الذي سيحيا على الطقس الملائكي يتبرّر من هذا العمل (العبوديّة للطعام والشراب)[137].

القدّيس غريغوريوس النيسي

* تأكّد تمامًا أن العدوّ يهاجم القلب عن طريق امتلاء البطن. مصدر المقال: موقع الأنبا تكلاهيمانوت.

الأب يوحنا من كرونستادت

لقد طلب إبليس منه أن يحوّل الحجارة خبزًا، لكن كما يقول القدّيس جيروم: [اعتزم المخلّص أن يقهر إبليس لا بالجبروت (تحويل الحجارة خبزًا)، وإنما بالتواضع[138].] لقد رفض أيضًا تحويل الحجارة خبزًا ليُعلن [أن من لا يتغذّى بكلمة الله لا يحيا[139].]

* كن سيدًا على معدتك قبل أن تسود هي عليك، الذي يرعى شرّهه ويأمل في التغلب على روح الفجور يشبه من يحاول أن يخمد النار بزيت[140].

القدّيس يوحنا كليماكوس

* عيسو خلال النهَم فقد بكوريته وصار قاتلاً لأخيه![141]

القدّيس يوحنا الذهبي الفم

سابعًا: التجربة الثانية، على جناح الهيكل

"ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدّسة،

وأوقفه على جناح الهيكل.

وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل،

لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك،

فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك.

قال له يسوع: مكتوب أيضًا لا تُجرِّب الرب إلهك" [5-7].





يقدّم لنا الشيطان تجاربه بكلمات معسولة مملوءة سمًا، فإن كلماته "أنعم من الزيت وهي سيوف مسلولة". يستخدم كلمة الله بعد أن يحرّفها، فما جاء في المزمور: "لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك" (مز 91: 11-12) كعلامة عن رعاية الله لنا المستمرّة، استخدمها الشيطان لكي يدفع السيّد المسيح ليجرِّب أباه، أو لكي يفسد رسالته بعيدًا عن حمل الصليب، مهتمّا باستعراض إمكانيّاته، بطلب الملائكة لتحفظه عِوض الدخول في حياة الألم.

يقول القدّيس جيروم: [يفسّر الشيطان المكتوب تفسيرًا خاطئًا... كان يليق به أن يكمّل ذات المزمور الموجَّه ضدّه إذ يقول: "تطأ الأفعى وملك الحيّات وتسحق الأسد والتنين". فهو يتحدّث عن معونة الملائكة كمن يتحدّث إلى شخص ضعيف محتاج للعون ولكنه مخادع إذ لم يذكر أنه سيُداس بالأقدام[142].]

الأمر المرير هو أن الشيطان يدخل لمحاربة أولاد الله في المدينة المقدّسة على جناح الهيكل، وفي أعلى الأماكن المقدّسة؛ هكذا لا يتوقّف عن محاربتنا أينما وجدنا!

كانت كلمات إبليس "اطرح نفسك إلى أسفل"... وكما يقول القدّيس جيروم: [هذه هي كلمات إبليس دائمًا إذ يتمنى السقوط للجميع[143].]

اهتزّ القدّيس يوحنا الذهبي الفم أمام طول أناة السيّد المسيح حتى في تعامله مع إبليس أثناء التجربة، إذ يقول: [لم يسخط ولا ثار، إنّما برقّة زائدة تناقش معه للمرة الثانية من الكتاب المقدّس... معلّما إيّانا أننا نغلب الشيطان لا بعمل المعجزات، وإنما بالاحتمال وطول الأناة، فلا نفعل شيئًا بقصد المباهاة والمجد الباطل[144].]

ثامنًا: التجربة الثالثة، الطريق السهل

"ثم أخذه إبليس إلى جبل عالٍ جدًا،

وأراه جميع ممالك العالم ومجدها.

وقال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي.

حينئذ قال له يسوع اذهب يا شيطان،

لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" [8-10].

دُعي إبليس بالكذاب وأبو الكذاب، فإنه لا يكف عن أن يخدع بكذبه. هذه هي طبيعته التي لا يقدر أن يتخلّى عنها. لقد ظنّ أنه قادر أن يخدع السيّد بقوله "أعطيك هذه جميعها" فلا حاجة إلى الصليب، إنّما يكفي أن تخر وتسجد لي. هذه أمر الضربات التي يصوّبها العدوّ للكثيرين، وهو فتح الطريق السهل السريع لتحقيق أهداف تبدو ناجحة وفعّالة. لكن السيّد لم ينخدع، لأنه يعرف حقيقة سلطان أبيه، وأن ما لأبيه إنّما هو له، فهو ليس في عوز. هكذا إذ يُدرك المؤمن غنى أبيه السماوي، وتنفتح بصيرته ليرى أنه وارث مع المسيح، لن يمكن للعدو أن يغويه بطريق أو آخر، مهما بدا سهلاً أو سريعًا أو محقّقًا لغنى أو كرامة زمنيّة.

يقول القدّيس جيروم: [أراه مجد العالم على قمّة جبل، هذا الذي يزول، أمّا المخلّص فنزل إلى الأماكن السفليّة ليهزم إبليس بالتواضع.] كما يقول: [يا لك من متعجرف متكبّر! فإن إبليس لا يملك العالم كلّه ليعطي ممالكه وإنما كما تعلم أن الله هو الذي يهب الملكوت لكثيرين[145]!]

ويرى القدّيس أنبا أنطونيوس في كلمات السيد: "اذهب يا شيطان" مِنحة يقدّمها السيّد لمؤمنيه، يستطيعون كمن لهم سلطان أن ينطقوا بالمسيح الذي فيهم ذات الكلمات، إذ يقول: [ليخزى الشيطان بواسطتنا، لأن ما يقوله الرب إنّما هو لأجلنا، لكي إذ تسمع الشيّاطين منّا كلمات كهذه تهرب خلال الرب الذي انتهرها بهذه الكلمات[146].]

هذه التجارب الثلاث التي واجهها السيّد وغلب، إنّما هي ذات التجارب التي واجهت آدم وسقط فيها وهو في الفردوس، ألا وهي: النهم، والمجد الباطل، والطمع، فقد أغواه العدوّ بالأكل ليملأ بطنه ممّا لم يسمح به له، وأن يصير هو وزوجته كالله، وبالتالي أن يملك شجرة معرفة الخير والشر. ما سقط فيه آدم الأول غلب فيه آدم الثاني، حتى كما صار لنا الهلاك الأبدي خلال آدم الترابي، يصير لنا المجد الأبدي خلال آدم الأخير.

يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن هذه التجارب الثلاث تحوي في طيّاتها كل بقيّة التجارب: [يبدو لي أنه بالإشارة إلى التجارب الرئيسيّة يتحدّث عن جميع التجارب كما لو كانت محواة فيها. لأن قادة الشرّير غير المحصيّة هي هذه: عبوديّة البطن، والعمل من أجل المجد الباطل، والخضوع لجنون الغنى[147].]

ختم الإنجيلي حديثه عن التجارب بقوله: "ثم تركه إبليس، وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه" [11]. يقول لوقا الإنجيلي أن إبليس "فارقه إلى حين" (لو 4: 13). فالحرب لا تهدأ قط، لكن مع كل نُصرة تفرح الملائكة، فتتقدّم إلينا لتحمل هذه النصرة كإكليل مجد ترفعه إلى السماء لحسابنا الأبدي. إنها تخدمنا هنا ـ لا خدمة الجسد ـ وإنما خدمة الروح، فتعتزّ بنا بكونهم حراسًا لنا.

وكما يقول القدّيس جيروم: [التجربة تسبق لكي تتبعها نصرة، وتأتي الملائكة فتخدم لتثبت كرامة المنتصر[148].]

يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [بعد انتصاراتك النابعة عن انتصاراته تستقبلك الملائكة أيضًا وتمدحك وتخدمك كحرّاس لك في كل شيء[149].]

ويتحدّث الأب سيرينوس عن عدم توقّف حرب الشيّاطين ضدّنا، قائلاً: [تسقط الأرواح (الشرّيرة) في الحزن، إذ تهلك بواسطتنا بنفس الهلاك الذي يرغبونه لنا، ولكن هزيمتهم لا تعني أنهم يتركوننا بلا رجعة[150].]

2. انصرافه إلى الجليل

انصرف السيّد المسيح إلى الجليل. لقد ترك الناصرة وأتى وسكن في كفرناحوم، التي عند البحر في تخوم زبولون ونفتاليم: "لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي القائل. أرض زبولون وأرض نفتاليم، طريق البحر عبر الأردن، جليل الأمم. الشعب الجالس في ظلمة أبصر نورًا عظيمًا، والجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور" [14-16].

منطقة "الجليل" عبارة عن دائرة تضم عشرين مدينة أهداها سليمان إلى حيرام ملك صور، وكان اليهود فيها قليلي العدد، أكثر سكانها من الفينيقيّين واليونان والعرب، ولهذا سُمّيت "جليل الأمم". كان حال سكان هذه المنطقة قد بلغ أردأ ما يكون، فجاء السيّد المسيح، معلّم البشريّة وشمس البرّ ليضيء على الجالسين في الظلمة (إش 9: 1-2).

أما منطقة كفرناحوم التي تعني "المعزّي" فتعتبر من أهم مناطق الجليل، وهي قلعة رومانيّة بها حامية من قواد الرومان.

3. دعوة التلاميذ

عند بحر الجليل دعا السيّد الأخوين سمعان بطرس وأندراوس، وأيضًا الأخوين يعقوب ابن زبدي ويوحنا.

بحر الجليل هو بحيرة عذبة يبلغ طولها 13 ميلاً، يحدّها الجليل غربًا ويصب فيها نهر الأردن من الشمال. ويُسمّى بحيرة جنيسارت وبحر طبرية، وهو يستمد أسماءه من البلاد التي يتصل بها من جهات متعدّدة.

من منطقة الجليل حيث الظلام الدامس، وحيث المكان المُزدرى به، دعا السيّد أربعة من تلاميذه، كانوا صيادي سمك، وكما يقول الرسول بولس: "يختار جهّال العالم ليخزى الحكماء" (1 كو 1: 27). يقول العلاّمة أوريجينوس: [يبدو لي أنه لو كان يسوع قد اختار بعضًا ممن هم حكماء في أعين الجموع، ذوي قدرة على الفكر والتكلم بما يتّفق مع الجماهير، واستخدمهم كوسائل لنشر تعليمه، لشك البعض كثيرًا في أنه استخدم طرقًا مماثلة لطرق الفلاسفة الذين هم قادة لشيعة معيّنة، ولما ظهر تعليمه إلهيًا.]

ويقول القدّيس جيروم: [كان أول المدعوّين لتبعيّة المخلّص صيّادين أميّين أرسلهم للكرازة حتى لا يقدر أحد أن ينسب تحوّل المؤمنين، إلى الفصاحة والعلم بل إلى عمل الله[151].]

4. الكرازة والعمل

إذ دعا السيّد المسيح تلاميذه للعمل في ملكوته أراد توضيح رسالته أنه لم يأتِ لملكوت أرضي وخلاص من نير الرومان السياسي كما ظنّ اليهود، وإنما لتحرير القلب من سلطان الخطيّة ليملك هو عليه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
مقدمة عن تفسير انجيل متي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير انجيل لوقا
» تفسير بعض الايات الصعبه فى انجيل متى
» تفسير انجيل معلمنا لوقا الاصحاح 19
» تفسير انجيل معلمنا لوقا الاصحاح 20
» مقدمة سفر الرؤيا

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
شات دم المسيح الحر :: الكتاب المقدس :: تفسير العهدالجديد-
انتقل الى: