مدخل الى دراسة سفر التكوين
يحتوي الكتاب المقدس على ستة وستين سفراً ،
تحوي تعاليم الله وخطته لخلاص الإنسان ، ومقاصده العامة للإنسانية التي يريدها أن تكون .
لذلك فدراسة هذه الأسفار أمر هام للغاية ، لأنها دراسة ما كتبه أٌناس الله القديسون بإرشاد الروح القدس وإلهامه ..
ودراسة مقدِّمات هذه الأسفار الإلهية أمر هام أيضاً ، لأنها تُساعد الدارس على ربط كلمة الله في وحدتها .
فدراسة المقدِّمة
هي بمثابة النظرة الشاملة العامة للسفر ..
وندرس هنا مُقدِّمة أول أسفار الكتاب المقدس / سفر التكوين ، وهو أول الأسفار الخمسة الأولى
المُسماة بالتوراة أو أسفار موسى الخمسة .
أســفار التــوراة :
تنقسم أسفار العهد القديم إلى ثلاثة أقسامٍ رئيسية
( توراة & كتبيم & نبييم )
والتوراة أي الأسفار الخمسة الأولى المُسمَّاة بأسفار موسى الخمسة ،
وفي المسيحية يُسمَّى كل سِفر منها بأول كلمة وردت فيه بحسب الترجمة السبعينية .
وكلمة ( توراة ) تعني تعليم / تقويم /
تهذيب ،
ولأسفار التوراة أسماء أُخرى كثيرة ،
ففي العهد القديم تُسمَّى
[ الشريعة & سفر شريعة موسى & سفر شريعة الرب & شريعة موسى ]
وتُسمَّى في العهد الجديد
[ كتاب الناموس & كتاب موسى & التوراة & ناموس الرب ] .
ومنزلة هذه الأسفار بالنسبة للعهد القديم كمنزلة الأناجيل الأربعة بالنسبة للعهد الجديد ،
فالتوراة فيها كلام عن آدم الأول ،
والأناجيل فيها كلام عن آدم الثاني ..
في التوراة شريعة العدل والأعمال ، وفي الأناجيل شريعة العدل والنعمة والأعمال والإيمان ..
في
التوراة قصة انكسار آدم الأول ، وفي الأناجيل قصة انتصار آدم الثاني ..
في التوراة خبر إنقاذ شعب الله قديماً من عبودية مصر ،
وفي الأناجيل
خبر إنقاذ شعب الرب الحقيقي من عبودية الخطية .
الكاتب :
لعدَّة قرون كان اليهود والمسيحيون يؤمنون بأن موسى كاتب هذه الأسفار ماعدا الجزء الأخير من سفر التثنية ص34 والذي يتعلَّق بموت موسى .
وهكذا آمن آباء الكنيسة الأولى أيضاً بأن موسى هو الكاتب ،
وأن نبوخذ نصَّر أحرق هذه الكتب وقت حصار أورشليم ، لكن عزرا أعاد كتابتها من جديد بإرشاد الروح القدس ...
لكن في فترة ما بعد 1700 م ظهرت نظريات المصادر ، وكان لها أكبر الأثر على دراسة الكتاب المقدس .
لكن عُلماء الكتاب المُحافظين كان لهم موقف آخر .
فقد رأوا أن هذه النظريات تفتقر للأدلَّة الكافية العلمية والكتابية ،
وأقاموا أدلَّة وبراهين قاطعة على أن موسى هو الكاتب ،
ومِن هذه الأدلَّة :
1) إجماع كل مؤمني العهدين القديم والجديد على أن موسى هو الكاتب .
2) شهادة الأنبياء الذين جاؤوا بعد موسى بأنه هو كاتب هذه الأسفار .
3) شهادة المسيح ورسله بذلك أيضاً
4) شهادة التوراة نفسها بأن موسى كاتبها
ولكن من الأرجح أن موسى كتب أجزاء كثيرة من التوراة ، وقام بجمع أجزاء أخرى كتبها غيره سابقاً عن أصل الخليقة
وسلسلة الأنساب من آدم والآباء ، كما سنرى في دراسة الأصحاحات الأولى من السفر .
كما أن آخرين أضافوا إليها من بعده . ويشوع كتب خاتمتها بعد وفاة موسى ..
وكل هذا الذي كتبه موسى ، والذي اقتبسه ، والذي كُتب من بعده ، قد تمَّ بإرشاد الروح القدس وتحت سلطانه العجيب .
س : كيف عرف موسى هذه المعلومات التي سجَّلها
هناك عِدَّة قرون بين آدم وموسى ، فما هو مصدر المعلومات التي سجَّلها موسى في أسفاره هذه
هناك عدَّة آراء للإجابة على هذا السؤال ، نذكر بعضاً منها :
1- لقد حصل موسى على هذه المعلومات مِن أسلافه الآباء الذين أوحى إليهم أيضاً . وقد توالت العصور وهم يحفظون هذه المعلومات مِن جيل
إلى جيل .
ففي الفترة من آدم إلى موسى هناك خمسة أشخاص عاصر كلٌّ منهم الآخر على التوالي :
( متوشـالح عاصر آدم 234 سنة & وسام عاصر متوشالح 98 سنة & واسحق عاصر سام 50 سنة & ولاوي عاصر اسحق 40 سنة &
وقهات بن لاوي أبو عمرام أبو موسى عاصر موسى حفيده فترة طويلة ) . والفترة بين ولادة موسى وموت قهات 42 سنة ، فبين لاوي
وموسى هناك :
قهات جدّ موسى الذي عاش 133 سنة & وأبو عمرام أبو موسى الذي عاش 137 سنة . فلابد أن موسى أخذ من أبيه وجدِّه ما تناقلوه عن آبائهم وأجدادهم حتى آدم .
2) لقد كان الآباء يهتمون جداً بتدوين الحوادث بأحسن إحكام ، وحتى لو فُقِدت هذه المكتوبات فقد تناقلوها شفوياً وبدقَّة ، فلم تكن هناك صعوبة في أن يعرف موسى بذلك .
3) لقد تهذَّب موسى بكلِّ حكمة المصريين ، أي أنه تعلَّم كافة العلوم المُتاحة وقتها مِن تاريخ وعلوم وفنّ وشِعر وأدب .
4) لا يمكن إنكار دور الوحي الإلهي في كل هذا ، فإذا كان موسى قد رأى ما سيحدث بمجيء المسيح بعد موته بعصور وقرون ، أفلا يستطيع أيضاً معرفة ما كان قبل ميلاده بعصورٍ أيضاً !
5) وهناك مَن يعتبرون أن سِفر يشوع هو خاتمة توراة موسى ، وأن التاريخ مِن بعده لم يُبرهن إتمام وعد الله لإبراهيم حتى في حياة الشعب قديماً . لذلك بقيت التوراة مفتوحة إلى أن جاء المسيح ربُّ المجد وقال " ما جئتُ لأنقُض بل لأُكمِّل وأُتمِّم " ، لذلك قال بولس " لأن غاية
الناموس هي المسيح للبرّ لكلِّ مَن يؤمن " (رومية4:10) . وهذا الرأي يصعب الأخذ به .
ســفر التكويــن
اسـمه :
" في البدء " أول كلمة في السِّفر وعنوانه ، سِفر البدايات ، وقد جاءت هذه الكلمة في الترجمة السبعينية ( التكوين ) بِناءً على الإشارات العديدة خاصة في الأصحاح الثاني " هذه مبادئ السموات والأرض "
. فيُسجِّل هذا السِّفر بداية تكوين العالم والإنسان ، وبداية
الخطية والنعمة . وكلمة ( بداية ) كلمة تثير الأمل والتفاؤل دائماً ورؤية المستقبل المُشرِق .
2) أقسـامه :
1- ما قبل التاريخ ( 1 : 1– 2 : 3 )
2- الإنسان قبل ابراهيم ( 2 : 4– 11 : 26 )
3- تاريخ غبراهيم ( 12 : 1– 25 : 34 )
4- اسحق وابناه ( 26 : 1 - 36 : 43 )
5- يوسف في مصر ( 37 : 1 - 50 : 26 )
3) موضوعاتـه :
غاية السِّفر الأساسية التي تؤثِّر في موضوعاته ( مُختصر للإعلان الإلهي وكشف شخصية الله & قصة خلق العالم ورغبة الله في تكوين شعب
خاص له بين بقية الشعوب ) .
ويتضمَّن السِّفر قسمين رئيسيين :
الأول (ص 1– 12) من الخليقة إلى دعوة إبراهيم .
الثاني (ص13–50) دعوة الآباء وإعدادهم لعملٍ مجيدٍ عظيم .
حيث يقطع الله عهداً عاماً مع آدم ثمَّ نوح في القسم الأول ، ثمَّ يقطع عهداً خاصاً مع إبراهيم رأس الجنس البشري المُختار في القسم الثاني .
ويُركِّز القسم الأول على بداية الخطية وانتشارها حيث أدَّت إلى هلاك البشرية بالطوفان . بينما يركِّز القسم الثاني على علاقة الله بإنسان واحد هو إبراهيم ، ومِن خلاله يَعِدُ بالخلاص لكلِّ العالم .
الموضوعات الرئيسية التي يعالجها سِفر التكوين :
الخليقة ( آدم ) & الأنساب & الطوفان ( نوح ) & الإيمان ( إبراهيم ) & السلام ( اسحق ) & الاحتيال ( يعقوب ) & نموذج للشباب ( يوسف ) ... بداية الكون * الإنسان * السبت * الزواج * الخطية * النعمة * الاختيار ...
لقد خلق الله الكون لكنه لم يتركه ، فهو صاحب السيادة المُطلقة . وخلق الكون جميلاً ثم خلق الإنسان ليتمتَّع به .
لكن الإنسان عصى الله وسقط ، فطُرِد وحُرِمَ منه . لكن الله في محبته كان يسعى إليه ليُعيده إلى العلاقة معه .
4) تاريخـه وجغرافيتـه :
تتم أحداث السِّفر في فترة زمنية أطول مِن التي تمَّت فيها أحداث ال65 سفراً الأخرى في الكتاب المقدس . فبداية خطوات الخلْق لا يمكن
تحديدها بالتأكيد .
فالسِفر يغطي مئات وآلاف السنين التي لا يمكن عدَّها . لكن الأرجح أن ولادة إبراهيم كانت سنة 2166 ق . م تقريباً & وولادة اسحق كانت 2066 ق . م تقريباً & وولادة يوسف 1805 ق . م تقريباً ..
فضلاً عن مئات السنين السابقة والتي لا يُعرف عددها بالتحديد ...
أما المناطق الجغرافية
التي يُشير إليها فهي المنطقة المعروفة حالياً بالشرق الأوسط ، ومنها منطقة الهلال الخصيب
ومصر وسورية والعراق وتركيا .
5) المسيح في سِفر التكوين :
1- تنبَّأ سفر التكوين عن المسيح نسْل المرأة الذي يسْحق رأس الحية ( 3: 15) وتحقَّقت هذه النبوة (عبرانيين2: 9-14)
2- في نسل إبراهيم تتبارك جميع الأُمم (12: 18) وقد تكرَّر الوعد بذلك لاسحق (26: 4) ثم ليعقوب (28: 14) ، وقد تحقَّق هذا الوعد في المسيح ( غلاطية3: 15-18) .
3- هناك رموز كثيرة تُشير إلى المسيح مِثل آدم ( رومية5: 12-21 ) وملكي صادق (عبرانيين7: 1-10) .
4- تقديم إبراهيم اسحق ابنه ذبيحة على جبل المريا ، كان رمزاً واضحاً لتقديم الله الآب ابنه الوحيد يسوع المسيح على جبل الجلجثة .
5- المُشابهة الكبيرة بين يوسف والمسيح ، فكلٌّ منهما كان محبوباً مِن أبيه ومبيعاً مِن اخوته بثمن عبد ، والخادم الذي يقاوم التجربة ويُهان لكنه يُرفع عالياً .
المبادئ الأربعة الهامة قبل الدخول في تفاصيل السِّفر :
(1) مِن المُهم أن نفهم ما يريد أن يقوله النصّ ، وبنفس الأهمية نفهم ما لا يريد أن يقوله أيضاً .
فهناك أسئلة يُجيب عليها الكتاب المقدس بوضوح ، لكنه يمتنع عن إثارة أسئلة لا ينوي الإجابة عليها . فيجب أن نفرِّق بين ما يقوله سِفر التكوين وما لا يقوله سِفر التكوين .
(2) مِن المُهم أن نفهم خلفية المُستمع الأول لهذا السِّفر . فموسى يكتب لشعب عاش في مصر 400 سنة بعيداً عن الأرض التي وعد الله بها إبراهيم ، وكان لهذه الفترة تأثير روحي وثقافي وجسدي على ذلك الشعب . فمعرفتهم قليلة جداً عن الله ، وحضارتهم ذات خلفية وثنية .
فالقصد من السفر الوصول بهذا الشعب إلى خلفية روحية جديدة .
لذلك يقدِّم اتجاهاً تعليمياً قوياً ضدَّ الوثنية .
(3) الأصحاح الأول والثاني يصفان الوقائع بأسلوب بسيط وليس بلُغة علمية محبوكة . وهذا شأن كل الكتاب المقدس ..
فليس هو كتاب علمي وفلسفي وتاريخي لتثقيف الإنسان ، بل هو رسالة الله الخالق المُحِبّ للإنسان ، يبلِّغه فيها (( مَن هو الله مَن هو الإنسان وما هي العلاقة بينهما )) .
لذلك فالأصحاحين الأولين لا يقولان كيف حدث هذا لكنهما يبينان مَن الذي فعل هذا
(4) المعلومات العلمية التي جاءت في سِفر التكوين جاءت مُتناسِبة مع ثقافة الإنسان المتاحة وقت كتابة السفر .
فهي تمثِّل نظرة الإنسان لهذه الأشياء وليست نظرة الله . لأن الله يُخاطب الإنسان بلُغته الإنسانية ، وإلاَّ يكون قد خاطبه بما لا يفهمه . لكنه أعطاه عقلاً ليُفكِّر
ويكتشِف ويتطوَّر ويسمو كل يوم