مارينا نائب مدير
عدد المساهمات : 2066 نقاط : 5492 تاريخ التسجيل : 29/03/2011 العمر : 38
| موضوع: الأرملة ذات الفلسين الخميس مايو 05, 2011 6:03 pm | |
|
«فجاءت أرملة فقيرة، وألقت فلسين قيمتهما ربع...»(مر12: 42)
مقدمة قال أحدهم إن المسيحي المعطي واحد من ثلاثة، فهو أما ينبوع لا يملك إلا أن يفيض دون أن تطلب منه أو تلحف أو ترجو، أو أسفنجه لا يمكن أن تأخذ منها إلا إذا عصرتها عصرًا، أو حقيبة مغلقة، مهما فعلت لا تستطيع أن تصل إلى ما فيها، إلا بالمفتاح البعيد عن متناول يدك أو تمزيقها، ومع أن هذا كله حق تمامًا، إلا أننا يمكن أن نضيف إلى الثلاثة، نوعًا آخر رابعًا من المعطين، ربما هو أفضلهم وسيدهم جميعًا وهو الذبيحة، التي قد تقطع من اللحم الحي كما يقول التعبير الشائع، أو هي في تعبير أدق وأصح، اللحم الحي كله يقدم قربانًا على المذبح، ويكون في منظره العظيم، أشبه بالصورة القديمة، لإسحق يقدمه أبوه فوق حطب المحرقة، والسكين في يده، مع هذا الفارق البعيد، أن اسحق وجد الفدية، في الكبش الممسك بقرنيه في الغاب، الأمر الذي وجدناه جميعًا، في ذاك الذي علق على هضبة الجلجثة من أجلنا أجمعين. أما المعطي، الذي يعطي حياته، وقوت يومه، ومعيشته الكاملة ويقبل أن ينام على الجوع أو العري أو الطوى، فهو ذاك الذي يشعل في الذبيحة، حتى تحترق بكاملها وتصعد على المذبح الإلهي المقدس، بخورًا ورائحة ذكية، مقبولة أمام الله والناس. ولعل الأرملة ذات الفلسين، التي رآها المسيح ذات يوم في هيكل الله، وهي تقدم فلسيها، كانت هذا النوع من المعطين، وكانت النموذج العظيم الرائع، الذي لفت به المسيح نظر الأجيال كلها، وحيث يرى الله التقدمة في أروع صورها أمام عينيه، وإن لم تكن هكذا بالضرورة أمام ادراك الإنسان أو فهمه أو استحسانه، ومن الحق أننا لسنا في حاجة إلى المعيار البشري الناقص في فهم العطاء، بقدر حاجتنا إلى الرأي الإلهي الصحيح، أو المصحح، لمعنى العطاء عند الله، ومن هنا كانت قصة هذه الأرملة الفقيرة أشبه بالمصباح الهادي أو المشتعل المضيء، لم يريد أن يتعلم كيف يعطي أو يقدم أو يبذل بين الناس... ومن ثم يمكن أن نراها بعد ذلك فيما يلي: الأرملة الفقيرة وشخصيتها لسنا نعلم في القليل أو الكثير عن هذه الأرملة سوى بضعة سطور جاءت في إنجيلي مرقس ولوقا ( مر12 :41 -44 ، لو21 :1 -4 )، والمسيح يتحدث عنها، عندما وقف تجاه الخزانة، يراقب من يعطون في صندوق الله ، من عطايا قلت أو كثرت على حد سواء، ما اسمها! لا ندري!! ومتى مات زوجها! لا نعلم!! وهل كان لها ولد أو بنت أم كانت وحيدة؟ في مسكنها أو كوخها، إن صح أنها كانت تملك مسكنًا أو كوخًا! وهل كان لها أخ أو أخت أو قريب! كل هذه أسئلة قد لا يقطع الإنسان بالجواب فيها، غير أنه مما لا شبهة فيه، أنها كانت فقيرة غاية الفقر، وربما لم يكن يوجد في مدينة أورشليم كلها من هو أفقر وأكثر عوزًا وحاجة منها على وجه الإطلاق ، وقد كشف الوحي عما كانت تملك من رصيد وهما الفلسان، وقيمتهما ربع، أو ما يقرب من الخمسة مليمات في العملة المصرية، وقد شهد المسيح أن هذا كل ما عندها كل معيشتها، ولم تكن المرأة في غاية الفقر فحسب، أكثر من ذلك كانت منكوبة، إذ مات زوجها، وعرفت طعم الترمل ومرارته وقسوته، على أن المرأة الفقيرة الأرملة، كانت مؤمنة بالله، تعرف طريقها إلى الصلاة في بيت الله، والتقدمة والعطاء لإلهنا رغم ما هي عليه من شدة حاجة، أو قسوة عوز، أو ضيق ذات اليد، على صورة نادرة بين الناس، ولا أتصور قط أنها وهي تقترب من صندوق العطاء، وهي تدرك أن المعطي المسرور يحبه الله، كانت تحمل وجهًا عابسًا، أو بائساً، أو متذمرا، بل لعلها على العكس كانت تتقدم بالوجه المضيء الطلق الممتلئ بالإيمان بالله، والرضا بأعماله، والتشبع بالشركة الدائمة معه، مهما كانت الظروف والأحوال المتنوعة والمختلفة المحيطة بها !. الأرملة الفقيرة والمسيح الجالس تجاه الخزانة جلس المسيح تجاه الخزانة، وكانت تقع في دار النساء في الهيكل، وبجانبها دار الأمم، حيث كان يتسع المكان في هذه البقعة وحدها إلى خمسة عشر ألفاً من العابدين، ولا أعلم لماذا قصد المسيح، بهذه الأرملة، ومعها، أن يحول أنظارنا إلى هناك، حيث وضع ثلاثة عشر صندوقًا، يقدم فيها المعطون عطاياهم لله، الذي أعلمه على أية حال، أن يسوع كما يقول الكتاب في إنجيل مرقس: «جلس تجاه الخزانة، ونظر كيف يلقي الجمع نحاساً في الخزانة...» أو في لغة أخرى أنه جلس وهو قاصد أن يراقب كيف يعطي الناس عطاياهم لله، أو جلس وهو يريدنا أن نعلم أننا لا يمكن أن نعطي بعيدًا عن عينيه الفاحصتين المدققتين المراقبتين، مهما كبرت أو صغرت عطايانا على حد سواء. ولكن لماذا يهتم المسيح بمراقبة المعطين، إلى هذا الحد الدقيق العظيم من المراقبة، لا شبهة في أنه يفعل ذلك، لأن المال يلعب دوره الأعظم في حياة الناس في كل زمان ومكان، فهو الذي يكشف عن أخلاق الناس وأفكارهم وطباعهم ربما بكيفية لا نستطيع أن نجدها في مكان آخر أو مجال آخر، وقد قيل عن رجل بخيل أن نبضه كان يرتفع وينخفض تبعًا لأخباره المالية، ولم يأكل ولو لقمة صغيرة من الخبز إلا على حساب الغير، وقد نجح كما كان يزعم في جمع أموال طائلة، ولكن نجاحه، كان هو الفشل بعينه، وما أكثر الكثيرين في الأرض الذين وهم يسيرون سيرة هذا الرجل عاشوا أبشع حياة أنانية، لم تكن ضارة لحياتهم هم فحسب، بل كانت وبالا ودمارًا وخرابًا على الآخرين أيضًا من بني الإنسان. ومن الجانب الآخر ليس هناك من نية يمكن أن يتحدث بها الإنسان لمجد الله أو للآخرين قدر التصرف الكريم في المال مع القريب أو البعيد على حد سواء، ألم تسمع عن ذلك الغلام الصغير الذي كان يسير مع أبيه وأخته، وقد ركبوا قاربًا ينساب على مياه الدانوب متجهًا إلى فينا عاصمة الإمبراطورية النمساوية في ذلك الحين، وكان الغلام في ذلك الوقت في العاشرة من عمره، وكانت أخته في الثانية عشرة، وكان أبوهما رجلاً فقيرًا يرأس فرقة موسيقية متنقلة وكان مرتبه ضئيلا جداًَ، لم يتح له أن يوفر شيئًا مما يريده لولديه الصغيرين، ونظر الغلام الصغير إلى فستان أخته، وقد عصره الألم وهو يقول لأبيه: كم أود يا أبي أن تشتري فستانًا جديداً، لأختي ماريان، فقد سمعتها تصلي طالبة أن يعطيها الله مثل هذا الفستان، ولاح الألم على وجه الأب، وأسرعت الفتاة الصغيرة ماريان توبخ أخاها الذي سبب لأبيه هذا الألم النفسي الكبير وهي راضية قانعة بفستانها القديم. وزاد الطين بله، أن رجال الجمارك طالبوا الأب بضريبة على القيثارة التي يحملها، وحار الأب ماذا يعمل؟ فما كان من الغلام إلا أن أسرع وأمسك بالقيثارة وأجرى عليها يده، وإذا هي تعزف أروع الأنغام وأجملها، وإذا برجال الجمارك يجتمعون معًا، إذ لم يسمع واحد منهم مثلما سمعوا في ذلك اليوم، ورفضوا أن يأخذوا شيئًا، قائلين: إن الغلام الذي يستطيع مثل هذه الألحان، يستحق أن يكافأ، وقالوا للأب، نحن لن نأخذ منك مالا، والمال الذي تدفعه، اشتر به شيئًا لهذا الغلام العظيم، واذا بالغلام يصيح: لا يا أبي.. اشتر به الفستان لأختي ماريان، ولمعت عينا مفتش الجمرك بالدموع وهو يقول: ياله من ولد مدهش.. ماهر وطيب أيضًا، وأجاب الوالد بصوت عميق، نعم لقد كانت رغبة قلبه أن يشتري فستانًا لأخته، وهو الآن أسعد ما يكون إنه استطاع، كان هذا الغلام هو الذي عرفه العالم فيما بعد بالموسيقي العظيم ولفانج موزار! أجل وليست هناك موسيقى يمكن أن تعدل موسيقى البذل والتضحية، التي يقدمها الإنسان مما يأخذ أو يملك من مال، في مساعدة الآخرين، وخدمتهم، والقيام بأجمل وأعظم المشروعات لمجد الله وخير الإنسانية، أجل ما أعظم ما يفعل المال عندما يحسن البشر استخدامه. الأرملة الفقيرة وكيف تفوقت بتقدمتها على الآخرين ليس من العجيب أن يضع المسيح هذين الفلسين في كفة، وجميع المتقدمات والعطايا التي تقدم بها الآخرون وهي كما يشهد الكتاب كانت كثيرة، في كفة أخرى، ومع ذلك رجحت كفة الفلسين على عطايا الآخرين!! كيف يكون هذا؟ وما هو السر في ذلك، وعلينا أن ندرك بادي ذي بدء أن الحساب عند الله يختلف تماما الاختلاف عن الحساب عند الإنسان، فليس المهم عند الله الكم بل الكيف، والمادة بل الروح، وقد تميزت عطية الأرملة الفقيرة على الآخرين بالكثير الذي نذكر بعضه. أولاً: أن هذه الأرملة عندما ألقت كل معيشتها، كل ما عندها كشفت عن جلال وعمق وعظمة اعتمادها الكبير والكامل على الله، فهي وإن كانت لا تملك بعد ذلك شيئًا فإنها إذ تملك الثقة الكاملة الموطدة بعناية الله تملك كل شيء، أو هي كما يصف الرسول، وصفها بالقول: «ولكن التي هي بالحقيقة أرملة ووحيدة فقد ألقت رجاءها على الله وهي تواظب الطلبات والصلوات ليلاً ونهاراً»، أليس هذا عين ما يذكره السيد، وهو يطلب من المؤمنين، وهم بصدد القلق أو التفكير أو الانشغال أو الاهتمام بالمأكل والمشرب واللباس: «انظروا إلى طيور السماء أنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها ألستم أنتم بالحري أفضل منها»؟ أجل ويكفي المرأة أن ترفع عينيها كل صباح إلى الطائر الذي يضرب بجناحيه هنا وهناك في الأعالي، لتعلم بأن الله الذي لا يمكن أن يتركه دون طعام، هيهات أن يتركها وهي أفضل عنده، ليس من هذا الطائر وحده، بل من جميع الطيور التي تطير على وجه البسيطة مجتمعة معاً، على أن الأرملة الفقيرة تكشف أكثر من ذلك، وهي تقدم فلسيها لا على روح الثقة واليقين والاعتماد على الله فحسب، بل على أعظم روح من القناعة والشكر، هيهات أن تعرف عن واحد من الأغنياء الذين قدموا عطاياهم في ذلك اليوم أو عند جميعهم دون وجه استثناء على الإطلاق، إن هذه المرأة الفقيرة تذكرنا بأرملة أخرى كاد ولداها الصغيران يتجمدان من الصقيع والمطر المنهمر، في ليلة من الليالي، ولم يكن لها ما يمكن أن تدفع به عنهما ما يعانيان سوى أن تخلع بابا داخليًا، وتجعل منه حاجزًا وستاراً .. وقال واحد من الولدين بلغة البساطة والقناعة والحمد: يا أمي ولكن ماذا يفعل الأولاد نظرينا الذين ليس لهم مثل هذا الباب الحاجز الخشبي، وهكذا عرف الصغير - مثلما عرفت الأرملة - التي لاشك شكرت الله مرات متعددة على اللقمة اليابسة، وعلى ما يعطيها المولى من عطايا وإحسانات وبركات مهما كانت محدودة وقليلة وضئيلة. على أن المرأة أكثر من ذلك عندما أعطت لم يكن لديها ما تبقى، فهي لم تقف عند حد العشور أو النصف، أو ما هو أكثر من النصف، إذ أعطت كل شيء دون تحفظ أو اضطرار أو شكوى أو ضيق، وما أكثر ما لا يفهم الناس، هذه الحقيقة، فيقولون مع ذلك الرجل الغني، الذي إذ طالبوه أن يدفع لمشروع ديني، قال سأدفع فلسي الأرملة التي طوبها يسوع المسيح... فقال له الطالب، ولكن ما رأيك في أننا لا نطلب منك إلا نصف ما دفعته هي وسأله: كم ثروتك فأجاب: أنها سبعون الفًا من الدولارات فقال له: إذن ادفع خمسة وثلاثين ألفًا لأن المرأة ألقت كل ما عندها كل معيشتها. وهل يعلم الناس آخر الأمر أن هناك فرقًا حاسمًا بين الذبيحة والفضلة.. إن الذبيحة عند الله أقدس وأكرم مهما كانت قيمتها الواقعية من أي فضلة أو بقايا يمكن أن يعطيها الناس مهما أعطوا أو قدموا أو تبرعوا!.. وهي في الواقع أرقى وأجل وأسمي من كل عطية أخرى قد تعطى، وليس فيها القليل أو الكثير من شائبة الفخر أو المباهاة أو التعاظم أو الرياء، بل لا تعدو الحقيقة أن نقول إنها أقدر على هز الوجدان البشري من أصوله وأساسه، من أغلى وأعظم العطايا التي يمكن أن يقدمها الناس الأغنياء في هذه الأرض الضخمة والكبيرة، التي كان من الممكن ألا تظهر إلى عالم الوجود، أو تنتصر على الأزمات المالية المروعة القاسية، لولا هذا الفلس القديم يظهر مرة أخرى بهذه الصورة في تبرع من معدم أو عطاء من فقير، كمثل ما قيل عن بائعة فقيرة معدمة، تجلس على قارعة الطريق، تفرد أمامها كومة صغيرة من حبات أبي فروة، وكانت تحصل على قوت يومها مما تبيعه، وهالها أن تسمع حديثًا مقتضبًا تحدث به مرسلان دون أن يقصداها عن ضرورة غلق عمل الله في الكثير في الميادين والبلاد للعجز المالي القاسي المتواصل في تلك الأيام، وقالت المرأة للمرسلين في فزع بالغ: ليس عندي ما أستطيع أن أساهم به في تسديد هذا العجز، وكل ما عندي هو هذه الحبات من أبي فروة واني أضعها كنصيبي الضعيف، من تبرع، أرجو أن تقبلاه، وليس يضيرني أن أمتنع عن الطعام، أو أصوم يومي، إذا كنت أوفر بذلك ما يمكن أن أقدمه من معونة لعمل الله ورسالته ومجده حيث يقوم العمل في الداخل والخارج على حد سواء، واهتز الرجلان وهما يحملان حبات أبي فروة، وفي الاجتماع العام للعمل المرسلي، ذكر حديث المرأة الفقيرة المسكينة التي ترفض أن تأكل ليسير عمل الله ويتقدم، وقبل الجميع، وهم يسمعون عن هذه الذبيحة الكريمة النبيلة العظيمة، أن تباع حبات «أبو فروة» بينهم في مزاد علني، وقيل أن الواحدة منها بيعت بخمسة آلاف من الجنيهات، وقدمت المرأة الفقيرة المسكينة وهي لا تدري أكثر من جميع الأغنياء المتبرعين مجتمعين معاً، وتحقق ما قاله السيد المسيح بالحرف الواحد عن الأرملة الفقيرة القديمة التي ألقت فلسيها، وعلى الصورة المذهلة التي لم تكن تخطر على بال أحد. فإذا عجز الإنسان عن أن يبعد الصورة الرائعة العظيمة، وإذا فعل ما فعله بعض الناس عندما كان يقرأ واحد من الرجال قائمة المتبرعين لمشروع ديني كبير في كنيستهم وكان كلما ذكر رقمًا كبيرًا عظيمًا لإنسان كبير يدوي تصفيق المستمعين الحاضرين، حتى جاء إلى رقم متواضع صغير تقدم به متبرع فقير معوز، ولم يهتم أحد للأسف بالتحية والتصديق، والراعي يعلم عن يقين أن المتبرع ألقى بفلسين في العطاء دون أن يعلم أحد!! سكت قليلاً ثم صاح: اسمعوا!! اسمعوا! أني أسمع تصفيقاً.. إنه تصفيق اليدين المثقوبتين!! وسعيد حقًا ذلك الإنسان الذي تصفق له يدا المسيح، علم الناس بذلك أم لم يعلموا على حد سواء. | |
|