إن أحد الأجانب المقيمين في الاسكندرية فكّر أن يمتحن صلاح القديس الذي لا يُمتحن. فارتدى ثياباً رثة وانتظره عند المستوصف حيث اعتاد البار أن يزوره مرتين أو ثلاثاً كل أسبوع. ولما أقبل القديس صرخ نحوه بصوت يثير الشفقة: 'إرحمني يا سيّد أنا الشقي'. فأشار إلى خادمه ليعطيه ستة نقود. فأخذها وانطلق بسرعة إلى مكان آخر وغيّر زيّه وانتظر القديس ولدى اجتيازه من هناك أمر بإعطائه ثانية.
أما تلميذه فدنا منه وأسرّ إليه: 'إنه هو الذي أعطيناه ستة نقود منذ قليل'. ولما ظهر لهما المرائي لثالث مرّة، حثه تلميذه قائلاً: 'هو نفسه، هو نفسه'. فأجابه: 'أعطه إثني عشر نقداً '. ثم نطق تلك العبارة المأثورة: 'لعلَّ ربي نفسه يجربني.'
ومرة أخرى فيما كان القديس ذاهباً إلى الكنيسة، دنا منه رجل من الشرفاء قد نهب اللصوص بيته وجعلوه على الحضيض. فلما رآه القديس تحنن عليه وأمر أن يعطوه خمس عشرة ليرة ذهبية. أما المسؤول عن التوزيع فلم ينفذ الأمر بحرفيته بحجة قلة المال، لأن القديس لم يتعوّد تكديسه. فبدل الخمس عشرة أعطاه خمس ليرات فقط.
وفيما كان البار خارجاً من الكنيسة دنت منه امرأة أرملة من الأغنياء، وسلمتّه صكاً بخمسمئة ليرة ذهبية موقعاً بيدها. ولدى استلامه شعر في داخله، بفعل النعمة الساكنة فيه، أن ما أمر به لم ينفَّّذ بحرفيته. فدعى المسؤولين وسألهم إن كانوا قد أعطوا خمس عشرة ليرة لذلك الإنسان المنكوب.
فأجابوه، كذباً، بأنهم أعطوه خمس عشرة ليرة. فاستدعى القديس الرجل المعني وبعد أن سأله عرف أنه أخذ خمس ليرات فقط. عندئذ أراهم الصك الذي أعطته إياه المرأة وقال لهم: 'سيطالبكم الرب بالألف الباقي. فلو أعطيتم الرجل خمس عشرة كما أوصيتكم، لقدّمت المرأة ألفاً وخمسمئة ليرة. ولكي تصدقوا كلامي ادعو المرأة التقية للحضور الى هنا '.فحضرت المرأة ومعها الذهب المنذور. فسألها البطريرك: 'قولي لي، هل هذه هي الكمية التي نذرتها لله منذ البداية' وإذ شعرت أن القديس قد اكتشف أمرها، اشتملها خوف شديد وعزمت على الإقرار بالسر قائلة: 'أيها السيد، كنت قد كتبت على الصك الذي أعطيتك ألف وخمسمئة، وقبل أيام فتحته فوجدت الكتابة ممحوة، لا أعلم كيف، فاعتبرت أن الله لم يشأ أن أقدّم أكثر من خمسمئة، هذه هي الحقيقة كلها '.
ولدى سماعهم هذا اشتملهم الرعب، فخرّوا عند قدميْ القديس ملتمسين مغفرة عصيانهم. وأما المرأة المحبّة المسيح فزوّدها بالدعاء والبركة وأطلقها بسلام.
كان كثير من مسيحيّي كنيسة الإسكندرية يرغبون بشدّة أن يطبقوا تقاليد الرسل. فكانوا يبيعون ممتلكاتهم ويضعون ثمنها بين يدي القديس يوحنا الرحيم، طالبين منه أن يوزّعها على الفقراء.
ومن بين أولئك ين رجل قدّم إلى القديس يوحنا سبعة مثاقيل ونصفاً من الذهب مؤكداً له أنه لم يبقِ منها شيئا لنفسه، وطلب إليه أن يصلّي من أجل خلاص ابنه وتوفيق سفينته المسافرة إلى إفريقيا وعودتها بالسلامة.
وبعد مرور ثلاثين يوماً من زيارته للقدّيس توفيّ ابنه، ثم في اليوم الثالث من وفاته، وبينما كانت السفينة عائدة من رحلتها تعرّضت لزوبعة بحريّة هائلة قرب منارة الإسكندرية، وبالكاد استطاعت أن تنجو مع ركابها، أمّا البضاعة فقد غرقت كلّها في البحر.
لم يمض على وفاة الابن فترة قصيرة، والحزن مازال يعصر قلب الوالـد، حتى فاجأته أخبار السفينة وما لحقها من أضرار جسيمة، فغرقت نفسه في لجة الحزن والكآبة.
إن خبر الكارثة الفادحة لم يدع البطريرك أقلّ أسىً من ذاك. لذا راح يتضرع إلى الله لكي يلطّف حزن المنكوب ويهدئ نفسه من عاصفة الكآبة المحيقة بها ويمنحها السلام والهدوء.
وفي تلك الليلة بالذات ظهر للمحسن في الحلم رجل يشبه البطريرك بشكله وقال له: 'لماذا كل هذا الحزن والكآبة ألستَ أنتَ الذي طلبت مني أن أصلّي من أجل خلاص ابنك فها هوذا قد خلص بنعمة الله ناجياً من شرور العالم. فإنه لو طالت حياته على الأرض لغدا إنساناً شريراً غير مستحق لمحبة خالقه ومبدعه.
أما بالنسبة للسفينة فلا تغتمّ البتة. لأنه لو لم يستجب الله لطلبتي لغرقت السفينة وركابها كلهم مع أخيك أيضاً. فلا تكتئب بل بالأحرى واجه الأحداث بصبر وشكر، عالماً أنه لا يحصل شيء بدون إرادة الله'.
فلما استيقظ الرجل شعر بتعزية كبيرة تغمر قلبه، وأسرع إلى القديس المغبوط، وخرّ عند قدميه شاكراً ومعترفاً له بالجميل ومخبراً إياه ما رأى في الحلم. فلما سمع البطريرك ذلك قال له: 'أدِ الشكر لله لا لي، لأنه يدبّر كل الأشياء بما يوافق منفعة النفس وخلاصها '.
وقد اعتاد المغبوط يوحنا الإطّلاع على حياة الآباء القديسين الذين اشتهروا في عمل الإحسان راغباً في اقتفاء خطواتهم، ومن بينهم سيرة القديس سيرابيون السيدوني الذي صادف يوماً فقيراً عرياناً في السوق فوقف يحدّث نفسه قائلاً: 'كيف وأنا الذي يُقال عني أني راهب صبور مجاهد، أكون لابساً ثوباً وهذا المسكين عريان، حقا إن هذا هو المسيح والبرد يؤلمه.' فخلع معطفه وأعطاه إياه. وبعد أن سار مسافة صادف فقيراً آخر فخلع عنه القميص وأعطاه إياه، ثم جلس متقوقعاً ماسكاً الإنجيل الذي بقي له.
فسأله أحدهم: 'من الذي عرّاك يا أبانا ' فأشار إلى الإنجيل وقال: 'هذا قد عرّاني '. وبعد أن باع الإنجيل أيضاً ووزع ثمنه للفقراء سأله تلميذه:
- أين الإنجيل الصغير يا أبت
- ثق يا بني، لقد أطعت كلام السيد القائل: 'بع كل ما لك ووزعه على الفقراء (متى 21:19) وفكرت بأنه ينبغي ألا أعفّ حتى عن الكتاب الذي دوّنت فيه هذه الوصية '. 'لقد جعلك الرب مجيداً في السموات أفلا تخلّص أخاك من الارتجاف والعري والخزي'